قاسم حول
في بحثي عن السينما في فلسطين قبل نكبة 1948 وأنا أعرض الأفلام السينمائية في مخيمي شاتيلا، اقترب مني أحد الفلسطيني وخبرني أن أحد أقربائه كان سينمائياً في فلسطين، وأنه الآن يعمل «سنكرياً» في دكان على أطراف المخيم. أردت التأكد من صحة الخبر فأخذت منه موعداً وذهبنا إلى منزله المتوضع جداً. وشاهدت صورة شاب في مقتبل العمر وراء كاميرا سينمائية قديمة.. كان اسمه «إبراهيم حسن سرحان». وعندما علم بأنني أريد أن أكتب عنه وأن أتعرف على النشاط السينمائي الفلسطيني فتح صندوقاً خشبياً وأخرج لي بضعة أشرطة، بضعة أمتار من الأشرطة السينمائية قياس خمسة وثلاثين ملمتراً وشاهدتها بالعين ثم أخرج من ذات الصندوق الخشبي صحفاً فلسطينية قديمة وفيها إعلانات وأخبار عن أفلام سينمائية فلسطينية.
سألته، هل أنت صاحب هذه الصورة؟
أجاب، ومن يكون غيري؟
في أية سنة بدأت علاقتك بالسينما، وما هو أول شريط سينمائي سينمائي أنجزته؟
قال: في عام 1935 عندما جاء سمو الملك سعود بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة إلى فلسطين، أنا صورته. تابعت زيارته من اللد إلى يافا، ومن يافا إلى تل أبيب، وكان الحاج أمين الحسيني يشير لي إلى الحالات المهمة التي علي أن أصورها للملك الضيف، مثل تناوله الطعام أو زيارة المناطق المهمة، أو تجواله في الشوارع أو لقاءاته مع الناس، لكن المشكلة أننا لا نملك كثيراً من الأفلام الخام كي نغطي كل الزيارة ولكننا صورنا أهم المفاصل في زيارة سمو ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز. وبعد أن أنجزنا تغطية أهم فقرات زيارة سموه، فإننا أنجزنا الفيلم على شكل جريدة سينمائية مرئية، وكانت هذه أول جريدة سينمائية مرئية في فلسطين حيث عرضت قبل برنامج السينما في سينما «أمبير» في تل أبيب. بالطبع كان الفيلم صامتاً، فلم نكن نعرف بعد كيف ندخل الصوت على الشريط السينمائي، ولكن عندما عرض الفيلم فإني وضعت اسطوانة فيها موسيقى في كرامفون قريباً من الشاشة، فكان الفيلم يعرض تفاصيل برنامج زيارة سمو ولي العهد، مع موسيقى فعرض الفيلم وكأن فيه صوتاً معبراً، وكانت السينما في العالم قد انتقلت في تلك الحقبة من مرحلة الفيلم الصامت إلى مرحلة الفيلم الناطق.
كم كانت مدة الفيلم؟
عشرين دقيقة. وأنا صورته بنفسي وكان معي مساعد «قول معي راح من بالي اسمه» ثم تذكر اسم المساعد.. «جمال الأصفر».
من أين حصلت على الكاميرا؟
اشتريتها بخمسين ديناراً من تل أبيب، وهي من الكاميرات التي تدار باليد وليس بالبطارية التي أدخلت لاحقاً على تقنية الكاميرات. كنت أحب أن أدير الكاميرا باليد خوفاً من أن أشتري كاميرا بالبطارية التي أخاف أن تصعد وتهبط شحنتها، فيبدو الفيلم بحركة غير متوازنة.
وكيف تعلمت التصوير؟
كنت مولعاً بالتصوير الفوتوغرافي منذ بداية حياتي، ثم بدأت أقرأ الكتب عن التصوير وعن العدسات وأخيراً عن طبع وتحميض الأفلام، وأقوم بالتطبيق بنفسي حتى تعلمت المهنة.
سؤال.. هل كنت تعرف بأن اليهود كانوا يعملون على الهيمنة على الإعلام والميديا منذ عقدوا مؤتمرهم في مدينة «بال – بازل» في سويسرا عام 1897م؟
كلا، لم يكن عندي علم بهذا.. ولكني كنت أشاهد يهوداً يأتون إلى مناطقنا، ويصورون المناطق البائسة فقط، يحاولون مثلاً التقاط شارع غير نظيف، أو طفلة ممزقة الملابس، ثم انتبهت خلال مشاهدتي لأفلامهم أنهم يعرضون هذه الأفلام بلقطات عن أراض جرداء.. ومن بعدها نشاهد البنايات التي تحتل هذه المناطق الجرداء والشوارع التي تعبد، فعرفت أنهم يريدون القول من هذه الأفلام إنهم بناة الحياة، كان المصورون اليهود لا يصورون الإنجازات الحياتية التي ينجزها الفلسطينين، يصوروننا وكأننا شعب خامل. هكذا كان الصراع السينمائي الثقافي في فلسطين.
لقد رحل السينمائي الفلسطيني بعد عام 1982 أي بعد الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال عاصمتها بيروت.. ذهبت لأسأل عنه سيما بعد أن طلبت من القيادات الفلسطينية تكريمه وتخصيص راتب شهري له وعدم تركه يعمل «سنكرياً» في الحدادة وهو بهذا العمر.. فتقرر تخصيص راتب شهري لأول سينمائي فلسطيني «إبراهيم حسن سرحان».
ولأننا شعوب نفتقر إلى تأسيس الذاكرة ومؤسسات الذاكرة، فلقد خسرنا وثيقة مهمة، ربما اختفت أول جريدة سينمائية فلسطينية، وربما أول جريدة سينمائية عربية أن تصور ويتم إظهارها وطبعها وتعرض في صالة سينما، ومعها صوت حتى وإن كان خارج الشريط السينمائي نفسه. لم نحتفظ بتلك الجريدة السينمائية التي صورت زيارة سمو ولي عهد المملكة العربية السعودية في تلك الحقبة.. لكانت الجريدة السينمائية الآن حدثاً تاريخياً هاماً في حياة المملكة وأيضاً في حياة السينما الفلسطينية!