د.عبدالله مناع
الفضل في هذه (الزيارة) التي سعدتُ فيها بلقاء فناننا الكبير: الأستاذ الموسيقار (غازي علي).. يعود للصديق الاستاذ محمد القشعمي أكبر الوراقين في المملكة وأعظمهم، وصاحب سلسلة (أعلام في الظل).. التي ينشرها في صحيفتنا هذه بين الحين والآخر، والذي كان من فضائل نبشه في الصحف القديمة.. أن أخرج لنا منها (حديثاً): كتابه التاريخي (معتمدو الملك عبد العزيز ووكلاؤه في الخارج)، و(قديماً): كتابه الوثائقي الجميل (طه حسين.. في الحجاز).. الذي كان تسجيلاً دقيقاً لأحداث تلك الزيارة، وما قاله الأدباء والشعراء للدكتور طه حسين، وما قاله طه حسين لهم في المقابل في فندق بنك مصر في (مكة المكرمة) وفندق (قصر الكندرة) في جدة، وما قاله طه حسين نفسه عندما رأى الكعبة المشرفة في مكة المكرمة والقبر الشريف في المدينة المنورة لأول مرة.. من نصوص إيمانية رائعة بأسلوب الدكتور طه حسين وفخامة لغته خلال تلك الزيارة التاريخية، التي قام بها عميد الأدب العربي - عام 1954 - . عندما كان رئيساً لـ (اللجنة الثقافية) التي أنشأتها الجامعة العربية في فجر تكوينها، لتقوم بـ (تعريف) شعوب الدول الأعضاء بآدابها وأشعارها وثقافتها عموماً.. تعميقاً للتواصل الثقافي بينهم، والذي سبقه تواصل سياسي.. قامت على أثره (الجامعة العربية) بأعضائها السبعة الأوائل.. عام 1947، فقد قام الاستاذ القشعمي عند مروره بـ (جدة) في طريقه إلى (القاهرة).. بزيارة مجاملة لفناننا الكبير الاستاذ (غازي علي) بعد أن سمع بـ (توعكه) صحياً، فسره أن وجده في خير وعافية.. إلا أنه لاحظ غياب الإعلاميين والإذاعيين والأدباء والمثقفين.. عن مجلسه إلا من قلة قليلة من أقرب المقربين إليه، إلى جانب طلبته الذين يتلقون عنه دروساً في الموسيقى والغناء والعزف على العود.. بحكم تخصصه في (التأليف الموسيقي) من معهد الموسيقى العربية بالقاهرة في أواخر الستينات الميلادية، بعد حصوله على الثانوية العامة من مدارس جدة الثانوية، التي انتقل وأسرته إليها من المدينة المنورة.. حيث كان مولده فيها عام 1357هـ، فكان أن تفضل الاستاذ القشعمي بـ (الاتصال) بي.. وبآخرين حتماً من الكثيرين الذين يعرفهم من الكتاب والأدباء والصحفيين المقيمين في جدة، ليستحثهم على الالتفاف حول الاستاذ غازي علي.. في (صومعته)، التي أصبح يعيش فيها وحيداً، بعد أن فقد والدته العزيزة التي كرس حياته لها ولرضاها.. وإلى حد عدم الاقتران بـ (وجة) قد تبعده عنها وتبعدها عنه.. منذ ثماني سنوات.. إلى جانب تناقص أعداد طلبته نظراً لتوعكه.. فكان أن رحبت شاكراً للأستاذ القشعمي لفتته غير المستغربة على وفائه وحبه وتقديره لأجيال الرواد في كل فرع من فروع حياتنا الثقافية والأدبية والفنية.. فـ (الاستاذ غازي علي) - رغم صغر سنه عن أجيال الرواد - هو أحدهم، وفي مقدمتهم موسيقياً.. دون شك..!!
* * *
لكن كيف الوصول إلى الاستاذ غازي علي.. وإلى صومعته؟
ليقفز إلى ذهني.. الاستاذ (علي فقندش) الصحفي الفني العتيد، أو (عرابي) الفنانين السعوديين.. قياساً على عرابي وكيل الفنانين المصريين الأشهر في القاهرة، لأهاتفه.. وأفاتحه برغبتي في زيارة الاستاذ غازي علي مساء يوم الأحد.. إذا كان ذلك ممكناً؟ فاستمهلني لبعض الوقت.. ليتصل بالأستاذ غازي لمعرفة أجندته في ذلك اليوم.. إن كانت تسمح بزيارته أم لا؟ ثم عاد إليَّ بعد سويعة ليخبرني بـ (ترحيب) الاستاذ بزيارتي لصومعته، وهو ما زاد من قلقي.. خشية أن يكون الاستاذ غازي قد تحامل على نفسه بدواعي المجاملة وقبل بالموعد المقترح، فاستنجدت بالصديق المخرج الإذاعي التلفزيوني الاستاذ (عبد الله رواس) مخرج برنامج (نور وهداية) الذي كان يقدمه (نجم) المشايخ: الشيخ علي الطنطاوي: إن كان يعلم كثيراً أو قليلاً عن صحة الاستاذ غازي علي.. بعد أن قصصت عليه كامل قصتي مع رغبتي في زيارة الاستاذ غازي علي.. فطمأنني قائلاً: إن صحة الاستاذ غازي في تمامها.. بل إنه حضر قبل أيَّام حفل التكريم الذي أقامه له (صالون الفن) في جدة لصاحبه الاستاذ عبد الصمد ساعاتي.. بحضور عدد كبير من الصحفيين والكتاب والفنانين والموسيقيين الذين شاركوا بالغناء من ألحان الاستاذ غازي في الحفل، وأن الاستاذ نفسه.. قدم بعض أغانيه، وأنه تم تسجيل حفل (صالون الفن) هذا بكامله، وأنه يمكن إرساله لي على (الواتس آب).. لمشاهدته، وقد كان.. لأسعد بكل تفاصيل حفل التكريم الذي أقامه (صالون الفن)، إن كان من خلال الكلمات التي ألقاها عدد من الصحفيين.. أو إن كان من خلال الأغاني التي قدمها عشاق الاستاذ غازي ومحبوه.. والتي كان في ذروتها تلك الأغاني الجميلة - التي لم أسمعها من قبل - والتي قدمها الاستاذ غازي علي نفسه.
مع هذه السعادة التي غمرتني عن صحة الاستاذ غازي علي، والتي أنستني القلق عليه.. كنت أشق طريقي بجوار عرابي الفنانين السعوديين (علي فقندش).. إلى صومعة الاستاذ غازي علي في الدور الرابع من إحدى عمائر الجزء الغربي من شارع حراء.. المتعامد غرباً على (طريق الملك).
عندما وصلنا إلى داخل (الصومعة).. كان يلفت نظري بساطة أثاثها وشدة نظافتها وسكونها العميق وتلك الأعواد الثلاثة التي اصطفت على جانب من جوانب (مجلسها)، والتي علمت فيما بعد أنها لتدريب طلبة المعهد.. لأجد الكاتب الصحفي الاستاذ أحمد العرفج والمخرج الاستاذ جميل قاضي.. اللذين كانا، وكأنهما سبقانا إلى الموعد بدقائق، ليطل علينا بعد هنيهة الاستاذ الموسيقار (غازي علي) بصورة مشرقة بهية.. زادتني سعادة، لأقول له بعد السلام والتحية: لقد تأخرت هذه الزيارة.. ثلاثين عاماً، فقال بمودة: ربما أكثر.. ليختار بعدها مقعده، ونصطف حوله، ليبدأ حوارنا معه.. والاستماع إليه.
* * *
وقد بدأنا الحديث مجتمعين بـ (تهنئته) لتكريمه في (صالون الفن) في جدة.. وبـ (مفردات) تلك الليلة الموسيقية الغنائية الرائعة، التي تجلى فيها الاستاذ غازي نفسه.. بمشاركته وغنائه، وتلك المقطوعات التي سمعناها منه وكأننا نسمعها لأول مرة، ليأخذنا الاستاذ غازي بعد ذلك.. إلى حالة التردي التي تعيشها الموسيقى العربية والأغنية العربية عموماً.. بعد عقود ازدهارها في الستينيات والسبعينيات.. إلى الثمانينيات، والتي كانت تمثل أيضاً سنوات تألق الاستاذ غازي وتدفقه موسيقياً ولحنياً.. عبر عشرات الألحان الوصفية والعاطفية والوطنية التي لم ينسها الجمهور.. له كـ (شربة من زمزم) و(يا روابي قبا)، ولنجوم الغناء في المملكة (طلال مداح ومحمد عبده وفوزي محسون) وغيرهم.. فنجوم الغناء العربي من أمثال وديع الصافي وفايزة أحمد وعلي الحجار وسعاد محمد وغيرهم، ثم جاءت لحظة الانكسار في حياة الأغنية العربية والموسيقى العربية إجمالاً.. مع رحيل جيل العمالقة (عبد الوهاب والسنباطي وفريد ومحمد فوزي وبليغ حمدي والموجي والطويل) الذي تزامنت معه: هجمة الأغنية الشبابية.. بإيقاعها السريع، وبساطة ألحانها وتواضع كلماتها.. وسهولة إنتاجها.. مما أحكم الخناق على الأغنية العربية، وأدى إلى تدهورها.. الذي تعيشه منذ سنوات، ودخول عالم الأغنية.. أنصاف الموهوبين وأرباعهم.. مع غلبة الفكر التجاري على عالم الأغنية وإنتاجها، وهو ما دعاني إلى الانسحاب.. إلى عالمي وقراءاتي وتأليفي الموسيقي.. أو ما أسميه (صومعة الفنان) لأدرِّس فيه الموهوبين.. وأنقل لهم خبراتي.
قلت له.. ولكن يبقى تكريمك.. وتكريم الريادة التي حققتها، ولذلك فإنني أجد نفسي مؤيداً لما قاله الصديق الدكتور حمود أبو طالب في كلمته التي قالها يوم تكريمك بـ (صالون الفن) في جدة.. إن تكريمك يجب أن يكون على مستوى الوطن، وليس على مستوى (صالون الفن) في جدة، فقد كان في حياتنا الثقافية والفنية.. قليلون مثلك، ممن أخلصوا.. وأفنوا حياتهم لفنهم على نحو ما فعلت وأديت وأبدعت، وهم بذلك.. ولذلك أحق بـ (التكريم).
صمت الاستاذ غازي بعد ذلك.. لأكتشف أن الساعة قد قاربت العاشرة مساء.. لأودعه ، متمنيّاً له الصحة والعافية، ومواصلة دربه في العناية بـ (الموهوبين)، الذين قد يصنعون غداً جديداً مشرقاً في حياة الأغنية العربية والموسيقى العربية.