د.عبد الرحمن الحبيب
...إذا كانت أمريكا فرضت ما سُمِّي النظام العالمي الجديد على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي، فإنها على ما يبدو بصدد تغيير لهذا النظام أو تعديل قواعد لعبة السياسة الدولية. إن صح هذا الزعم، فما هي الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي من المرجح أنها ستشكل منطلق النظام العالمي القادم؟
قبل ذلك، ما هي الاستراتيجية الأمريكية السابقة؟ يمكن إيجازها بمرحلتين: الأولى مرحلة بوش، الممثلة بوثيقة «استراتيجية الأمن الوطني» الأمريكية الصادرة عام 2002 بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، منتقلة من عقيدة الردع أثناء الحرب الباردة إلى عقيدة «الحرب الوقائية» استباقاً للسيطرة على التهديد القادم من الجماعات الإرهابية وتهديدات الدول مثل العراق وإيران، ومواجهة النفوذ الروسي. على هذا الأساس قامت أمريكا بدور شرطي العالم ولم تتوانَ عن التدخل عسكرياً بأسلوب «الصدمة والرعب» ضد من تمرد على النظام العالمي.
بينما المرحلة الثانية في عهد أوباما تمثلها وثيقة «استراتيجية الأمن الوطني» لعامي 2010 و2015 أساسهما الأمن الاقتصادي والتراجع عن التدخل العسكري الضخم إلى تدخلات عسكرية خفيفة، والتركيز على استخدام القوى الناعمة: مفاوضات سياسية واقتصادية يتخللها مكافآت أو عقوبات؛ طارحة ما أطلق عليه «الصبر الاستراتيجي» لاحتواء المتمردين على النظام العالمي.
قبل معارضة ترامب لاستراتيجية أوباما ظهر الاعتراض بشدة من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، باعتبارها تراجعاً عن الدور القيادي لأمريكا، مما أدَّى لنتائج كارثية في رأي المعارضين، مثل التدخل الروسي في أوكرانيا ثم سوريا، وانهيار نظام الدولة في بعض مناطق الشرق الأوسط، وزيادة التمرد الإيراني المهدد للاستقرار الدولي. فإذا كانت الاستراتيجية الناعمة لأوباما لم تثمر، فكذلك الاستراتيجية الخشنة لبوش! فماذا لدى خطة ترامب؟
رغم أن ملامح استراتيجية كل رئيس جديد تأخذ عدة شهور للظهور فإننا شهدنا تلك الملامح خلال الأيَّام الأولى من إدارة ترامب، فيمكن القول، مع بعض التحفظ، إن خطة ترامب تقوم على الدمج بين الاستراتيجيتين السابقتين مع اختلاف في الاتفاقات الدولية. هذا الدمج يعني التدخل العسكري والاحتياط الأمني الصارم من جهة، والإجراءات الاقتصادية الجديدة الحادة من جهة أخرى. لكن إدارة بوش وأوباما لم تمسا الاتفاقات والتحالفات والاتحادات الدولية، أما إدارة ترامب فعازمة على مراجعة العديد منها، معبرة عن انزعاجها بأن أمريكا هي أكبر من يدفع ثمنها، وحان وقت الآخرين لدفع الفواتير.
ما هي الإجراءات التنفيذية لإدارة ترامب؟ من الناحية الأمنية، نجد أمثلة كوقف برنامج استقبال اللاجئين وفرض حظر على دخول مواطني البلدان التي من المرجح أنها تؤوي الإرهابيين، ومرسوم بناء جدار الفصل مع المكسيك، ورفض اتفاقية تبادل اللاجئين مع استراليا... الخ.
ومن الناحية العسكرية، فالإدارة الأمريكية حذرت إيران بشكل رسمي دون استثناء التهديد العسكري عقب التجربة الصاروخية الإيرانية والاعتداء على سفينة سعودية ودعم طهران لجماعة الحوثي. وقد خلصت صحيفة لوس أنجلوس تايمز الى أنه إذا كان التهديد «الرسمي» يمثل استراتيجية أمريكية فهل يأتي بنتائج تمهد الطريق إلى الحرب؟ الإجابة غامضة الآن، لكن الملامح واضحة، فالتحذير حازم والإدارة الجديدة أظهرت أنها جادة في تهديداتها؛ ففي واحدة من أحدث تصريحات ترامب نشرها على صفحته الرسمية بتويتر، قال: «إيران تلعب بالنار.. لا يقدِّرون كم كان الرئيس أوباما طيباً معهم. لن أكون هكذا».
أما على الصعيد الاقتصادي فالأمثلة كثيرة مثل إنهاء مشاركة أمريكا في مفاوضات اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ التي تفاوضت عليها إدارة الرئيس السابق أوباما مع 11 دولة، وإعادة التفاوض حول اتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة، التي تضم الولايات المتحدة والمكسيك وكندا.
لاحظ أن كل ما ذكر تم في عشرة أيَّام من بداية رئاسة ترامب! لذلك قال ترامب إن على الكونجرس أن يستعد لأنه سيشغلهم فعلاً! فهل سيتمكن من المضي قدماً في نهجه المثير للجدل؟ على الأرجح: نعم؛ رغم صعوبة التكهن بمصير تنفيذ خططه التي لا يمكن عزوها لنهج سابق سواء كان للجمهوريين أو للديمقراطيين؛ وإن كان الجمهوريون الذين يمثلون الأغلبية في الكونجرس يساندونه نظرياً إلا أن عدداً محدوداً منهم دافع عن قراراته فيما أدانها بعضهم جزئياً أو كليا. التجارب السابقة تشير إلى أن القول الفصل هو للبيت الأبيض في القضايا الخارجية؛ فهذا ما جرى للرئيس السابق من مسانديه الديمقراطيين الذين عارضوه كثيراً، ولم تثنيه عن المضي قدماً بخططه الخارجية. كذلك الرئيس الأسبق الذي عارضه أغلب حلفائه الغربيين لكن خطته مضت كما أراد.
الخلاصة أن العالم يمر بإعادة نظر للعولمة ككل سواء ببداية تفكك الاتحادات الدولية كالاتحاد الأوربي وترهل بعضها أو بالميول الشعبوية والعودة للحدود الوطنية المضادة للعولمة التي نشأ منها أزمات عجزت عن حلها. هذا سيسهل المهمة لإدارة ترامب الذي صرح بأنه سيعمل للأمركة مقابل العولمة وفق قاعدة «اشترِ منتجات أمريكية ووظف مواطنين أمريكيين»، مؤكِّداً عزم إدارته فرض إجراءات حمائية كالضرائب الجمركية على الشركات الأمريكية حال نقل مصانعها خارج البلاد، مما سيعيد هيكلة العولمة الرأسمالية. هذه الهيكلة الاقتصادية الجديدة المنتظرة سيرافقها استراتيجية أمنية أمريكية جديدة تجاه العالم ستشكل النظام العالمي ما بعد الجديد.