عبدالعزيز السماري
كان مفهوم السياسة عند العرب الأوائل يدور حول ميزان شعرة معاوية، وهي شعرة أخذت شهرة واسعة، وأعجب بها السياسيون من بعده، ولازال يستعملها الكثير عند التعامل مع العامة، والمقولة فيها اعتراف بقوة تأثير الرأي العام، فإذا شدوا أرخيت، وإذا أرخوا شددت.
الرأي العام في الوطن يمثل نبض الإنسان في الجسد، فإذا تم قمعه، يؤثر سلباً على باقي أعضاء الجسد، وإذا أُسكت تماماً حانت ساعة الأجل، ولو عدنا في مراحل التاريخ المتوالية لأدركنا أن نهاية الحاكم الدكتاتور كانت دوماً مأساوية، إذا تمادى في سياسة القمع التي لم تأخذ في الحسبان مبدأ شعرة معاوية واحترام الرأي العام.
لهذه الأسباب تنتشر ثقافة استطلاعات الرأي العام في الأنظمة الديموقراطية، والتي يستفيد منها السياسي في تقويم سياساته، والرجوع عن التمادي في الأخطاء التي تُصنع في الغرف المغلقة، ولعل ما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية من إحتجاجات في الرأي العام والإعلام ضد قرار منع دخول اللاجئين، وتراجع متوقع عن القرار، دليل على قوة الرأي العام.
منحت وسائل الاتصال الاجتماعي مساحة أكبر للرأي العام، بل تجاوزت قوة تأثيره قنوات الإعلام الرسمية، وهو ما يعني أنه لا يمكن تهميش الرأي العام في القضايا التي تمس مصالحهم، وهو ما يتطلب تفعيل أكثر لمرونة شعرة معاوية.
أزمة الأنظمة غير الديموقراطية أن الرأي العام ليس له شرعية، ولا تحميه قوانين أو حقوق مكفولة، ولكن يعتمد على تقديم الضحايا التي تندفع خارج الحمى من أجل التعبير عن مطالبها، ثم رفع سقف الرأي في العلن، وهو ما يتطلب مواجهات، قد تكون قاسية في بعض فصولها.
الرأي العام بمثابة شهود يدلون بإفاداتهم في القضايا الكبرى، لكنهم لا يملكون إلا إبداء أرائهم في الشأن العام، وقد تشتد نبرات أراءهام إذا كان القرار تغلب عليه صفات الانحياز والمصالح الخاصة، وإذا تمادت السلطة في تغاضيها عن ردة الفعل الشعبية تزداد نبرة التوتر بين حروفهم، وتبدأ مرحلة أخرى.
في حين في الأنظمة الديموقراطية يختلف الشأن، حيث يوجد قنوات للتعبير عن الرأي في الشارع، كما يستطيع نوابهم إسقاط الحكومة المنتخبة إذا فقدت الثقة في البرلمان، وهو ترجمة عصرية لشعرة معاوية، ومحاولة لطمئنة الرأي العام، وإعادته إلى صفوفه سالماً.
استخدام القوة المفرطة أو الأمر بإسكات الرأي العام يولد قنوات سرية للدفاع عن حق التعبير في الأنظمة القمعية، وهو ما يرفع من درجات التوتر في المجتمع، ويؤدي إلى فقدان الثقة في السلطة، وإذا حدث ذلك تبدأ فصول جديدة في التاريخ السياسي للشعوب.
خلاصة الأمر أن مبادئ السياسة أيضاً تطورت كثيراً، ولم تعد رهينة لثقافة العصور الوسطى، أو أعطه يا غلام ألف درهم أو خذوه فغلوه، ولكن تحولت إلى منهج يقوم على مبادئ النزاهة والمصداقية، وإذا فقدها السياسي يفقد سحره وجاذبيته وقوة تأثيره الإيجابية، ثم يتحول إلى ضيف ثقيل على موائد الرأي العام..