ياسر صالح البهيجان
أحدثت ثقافة الصورة وإفرازات التكنولوجيا الحديثة ثورة في آليات الخطاب الفاعل والمؤثر في الرأي العام، لتفرض قيما ومعايير جديدة لا تنسجم مع طبيعة الخطابات الكلاسيكية التي عادة ما يتبناها أتباع التيار المحافظ الذي ينطلق من رؤى تراثية في فهم الأحداث أو اتخاذها وسيلة للاتصال الجماهيري في زمن تغيرت فيه ذائقة الجمهور.
نمط الخطب العصماء والكلمات المسجوعة والاستشهادات الشعرية تجاوزه الزمن الحاضر القائم على مبادئ متحضرة غيرت بوصلة التركيب اللغوي نحو أسلوب يختزل الكلام وينطلق من الصورة لتنطق وتتحدث من أجل كسف واقع مأزوم أو بعث أمل بعيد المنال، فنحن إزاء تحول في الوسائل الاتصالية شكلا ومضمونا، وقبل هذا وذاك نحن أمام تبدل في آليات التفكير وطرائق التلقي وأساليب الإرسال والاستقبال.
الخطابات الفاعلة طالت أساليب الترغيب والترهيب أيضًا في ظل تنامي مستوى وعي المتلقين، وتجاوز المجتمع لمشكلات الأمية، وازدياد أعداد الدارسين في شتى المجالات، وما كان صالحًا لمجتمع بالكاد يفك طلاسم الأحرف الأبجدية والجمل القصيرة لم يعد صالحا في بيئة مثقفة قادرة على النقد والتأويل، وتمتلك الأدوات الفكرية اللازمة لتقويض الخطاب الأيديولوجي غير المنسجم مع الواقع المعاش وتحديات المرحلة الراهنة.
العصر التكنولوجي أسقط مركزية النص، وأزال الهالة التي كانت تحيط بقائله سواء أكان عالما أو نخبويا، وجعل من المتلقي المهمش مركزا، وبات المستقبل فاعلا ومنتجا لنص موازٍ يتيح له إمكانية التعبير عن الرفض أو مساءلة النصوص كما يشاء، أي أننا إزاء تعددية ثقافية لها انعكاساتها الجدلية في تلقي ما يكتب أو ما يُقال، ولم يعد القارئ الافتراضي المتخيل هو ذاته في مرحلة ما قبل الطفرة الرقمية، بل أصبحنا أمام قارئ أكثر تعقيدا لديه مقومات إنشاء الخطابات المضادة.
الخطاب المعاصر يقع في مأزق تجاوز الفضاء المحلي زمانًا ومكانًا، أي أنه سيواجه أفهاما ذات مرجعيات ثقافية متعددة لا تنتمي بالضرورة إلى بيئة منتج النص أيا كان النص دينيا أو أدبيا أو فكريا، وهذا الانفتاح في إمكانات التلقي فرض تغيرات تطال كينونة الخطابات وآليات امتزاج الأفكار داخلها، وبات المنتج لأي خطاب أمام معضلة تصور تلك التعددية ليصوغ بناء لغويا قادرا على احتوائها والتعايش معها، إن أراد صناعة نص جدير بالتأثير ويمتلك مقومات التغيير الفاعل.
معضلة الخطابات الكلاسيكية أنها تنطلق من أفكار تنتمي لبيئتها الجغرافية الضيقة، ولا تضع في الحسبان طبيعة الوسائل الحديثة التي جعلت من العالم برمته فضاء واحدًا متصلا ببعضه تأثيرًا وتأثرًا، ما يجعلها خطابات جوفاء مفرغة من الدلالة الفاعلة ذات البعد الكوني والإنساني المشترك، والقادرة حقًا على أن تقبل بمبدأ تعددية ثقافات التلقي التي أصبحت بفضل الواقع الرقمي من المسلمات البديهية.