«الجزيرة» - سلطان المهوس:
ما الذي سيخطر ببالك، أو تتخيله، في حال جاءتك الفرصة لزيارة سجن «الطرفية» التابع لإدارة المباحث العامة بمنطقة القصيم؟
كان الأمر بالنسبة لي أشبه بالاستيقاظ المفاجئ، للحاق بفرصة قد لا تعود مرة أخرى، فبين جدران ذلك «السجن» تبدو متناقضات الحكايا حاضرة وبقوة، بين ناقم حتى اليأس، وبين متعقل يروي حقيقة ما شاهده.
كانت الساعة السادسة مساء من يوم الأحد الموافق 17-4-1438هـ ركبنا السيارة بوفد يضم سبعة أشخاص، فيما كنت الوحيد الممارس للإعلام بينهم، لذلك كان الفضول والشغف أكثر، لأنقل عبر صحيفة»الجزيرة» مشاهداتي للقراء والمهتمين.
وطوال جلوسي منتظرا محطة الوصول كنت أقلب جوالي؛ بحثا عن المعلومات المتوفرة عن السجن الشهير، حتى لاحت جدرانه قريبا من نافذتي، لأسأل نفسي حيث كنت صامتا طوال الطريق: ماذا يمكن أن تشاهد؟ ما هو المسموح لنا بالاطلاع عليه؟ هل سنرى السجناء فعلا؟ هل من المسموح لنا أن نسأل عن أي شئ؟ أم أننا سنكون ملزمين برؤية الإجابة «المغلفة» دون الهمس بالسؤال؟
ولأنه لم يسبق لأي شخص منا أن زار سجن "الطرفية" لذلك كانت درجة الانتباه والتركيز حاضرة بيننا لمعرفة دهاليز الجدران المغلقة، ومع ذلك كانت إجراءات الدخول ميسرة، والاستقبال رائع، ولفت نظري أنهم لم يطلبوا منا عدم حمل "الهواتف المحمولة" فقد كانت إشارة للثقة الحاضرة، كما لفت نظري منظر الورود المنتشر بأرجاء السجن الخارجية، لدرجة أنك لا تصدق أن ذلك مدخل سجن مباحث عامة.
استقبلنا مدير عام المباحث العامة بمنطقة القصيم، ومدير السجن، ومساعدوه، ومدير التحقيقات، حيث جلسنا بمكتب مدير السجن، وهناك جرت الأحاديث الودية المتوقعة، لكن الذي فاجأنا هو وقوف مدير إدارة المباحث العامة بالقصيم وهو برتبة لواء، قبل انطلاق الزيارة، طالبا منا أن نسأل عن أي شيء نريده، دون أي تحفظ وردد ذلك -ربما- أربع مرات ونحن نسير لبدء جولتنا الميدانية، هنا جاءتني الإجابة، لتساؤلي السابق، وأنه لا وجود لإجابات مغلفة.
أصدقكم الحديث، كنت أنتظر لحظة مشاهدة السجناء، كنت أريد أن أسلم عليهم واطمئن، وأدعو لهم ولي بالهداية، وأن يزيل الله كربتهم، ليعودوا صالحين نافعين لدينهم ووطنهم ومليكهم، كنت أريد أن أسألهم شخصيا ووجها لوجه، عن أحوالهم وحقيقة ما نسمعه ونقرؤه، وهنا أكتب عن محكومية سجين وبيئة "سجن" لأن ما أكتبه يجسد ما شاهدته بعيني وسمعته بأذني.
لم أكن مهتما "بالإصلاحية" وفقاً لأرقام المساحة والعدد، قدر اهتمامي بنقل تفاصيل "البيئة" داخل السجن الشهير، وكيف يعيش النزلاء؟ وكيف يتم التعامل معهم، وما هي ظروف مأكلهم ومشربهم؟ وكيف يُنظر لهم إنسانياً؟ والكثير من التساؤلات التي أتمنى لها جواباً مشرِّفاً حضارياً أخلاقياً، أبارز فيه كل من يحاول النيل من "وطني" أو يبتزه.
كانت لحظات عصيبة، لشخص سيعيش المواجهة أمام ضميره وأمانته وأخلاقه وتربيته بعد دقائق! مسيرة خطوات قليلة كانت ستضعني أمام الواقع، حينها سأكون بين مفاخر عزيز، أو مفجوع كسير، ولا أخفيكم أن نظافة وجمال وتعقيم الجمادات (ممرات –أسوار-مكاتب-صالات- مرافق ...) التي نسير بين جنباتها، قبل لقائنا بالنزلاء، كانت سلاحاً ذو حدين، فقد كنت أخشى أن تكون تلك هي "الرتوش" التي تخفي تحتها وجهاً بائساً، كالحاً، تعتصره المهانة، لا يراد لنا رؤيته!.
دخلنا أولا للمطعم الذي يقدم ويعد الوجبات لنزلاء السجن، والحقيقة أنني شككت بما شاهدته، وتشجعت لأسأل مدير السجن :هل هذا للضيوف والحفلات ومناسبات السجن أم للنزلاء؟ ابتسم وقال : ستراهم _يقصد النزلاء – اسألهم!.
كانت الأصناف صحية ومنظمة ولذيذة، تنوعت بين مكونات الأرز واللحوم وحتى البرجر والخضروات والفواكه والشوربات والأجبان والمعلبات، وأنواع الخبز انتهاء بالمشروبات والعصائر، التي تصرف للنزلاء بواقع ثلاث مرات يوميا مجانا.
لأني صحفي فستكون الصورة خير دليل لذلك طلبت من المسؤولين عن السجن أن يرسلوا لي الصور الملتقطة من قبل المصور الخاص للسجن فلا أحد يمكنه أن يتخيل "بيئة" سجن الطرفية التي شاهدتها مهما كتبت.
أكثر من ألفي قطعة ملابس للغسيل والكوي، يتم إنهاؤها يوميا؛ لتسليمها للنزلاء عبر مغسلة خاصة، بأحدث تجهيزاتها التقنية وبإشراف كادر سعودي خبير، حيث يتم غسل وكوي كل ما يطلبه النزلاء بشكل آلي منظم.
اتجهنا لقسم المستشفى الخاص بالنزلاء الذي يحوي كافة التخصصات وغرف التنويم، وقد توقفت كثيرا عند جهاز خاص "بمئات آلاف من الريالات" داخل قسم الجلدية وهو " جهاز "الناروباند" للنزلاء الذين يعانون من البهاق والأكزيما والصدفية، وهو أحد أحدث الأجهزة بالعالم في مجاله وتخصصه، كما يحوي المستشفى على قسم خاص لعلاج الأسنان والتركيبات بشكل مجاني.
وصلنا للحظة التي انتظرناها، وكنت أخشاها كثيراً، حيث اتجه بنا مدير السجن والذي يحمل رتبة "عقيد" لعنابر السجناء، والحقيقة أنني كنت مترددا بالدخول، بعد أن فتحوا باب أحد العنابر، ودخل الجميع، فيما انتظرت بالخارج ولا أعرف لما أصابني هذا الشعور، حتى انتبهت لصوت مرتفع يطلب مني الدخول وهو ما فعلته، فقد دخلت لغرفة كبيرة ونظيفة جدا تضم ستة نزلاء، كانوا جميعا مبتسمين بوجوهنا، سلمت عليهم جميعا ودعوت لهم من كل قلبي، واستوقفني شاب قبل خروجي عمره لا يتجاوز 22 عاما، قائلا : "لا تنسوننا من دعواتكم" .
داخل عنابر السجناء هناك امتيازات وتنظيمات دقيقة تقوم أولا على وضعية السجناء النفسية والعمرية لإيقاظ هممهم، وتعزيز دافعيتهم وإحساسهم بردم الهوة بين الحياة داخل السجن وخارجها، فهناك أجنحة بمسمى " إدارة الوقت" يعمل النزلاء على تنظيمها بأنفسهم دخولا وخروجا، استيقاظا ونوما، رياضة ولعبا، قراءة ورسما، كل ذلك دون تدخل من حراس السجن.
يشرح لنا أحد النزلاء ممن أمضى أكثر من خمس سنوات هنا، فيقول : أنتم ترونني الآن كقائد لهذا الجناح، الذي نرسم له جدولا محددا لنشاطاتنا ولا نحتاج لتوجيهات من الحراس، فهنا ندير أنفسنا بأنفسنا.
في الزاوية المواجهة للعنابر عملت إدارة السجن على بناء مكان فسيح للجلسات الحرة بين النزلاء، يمكن من خلاله التوجه لمكتبة السجن العامرة بكل الكتب المسموح بها والمتنوعة، كما يمكن للنزيل الاتجاه لمحل التموينات الغذائية لشراء ما يحتاجه ،إذ يتم صرف مبالغ مادية للنزلاء.
في السجن صالة رياضية ضخمة جدا، زرناها ووجدنا أن معظم النزلاء يزاولون رياضة كرة القدم داخلها، مغطاة بحماس كبير وقد آثرت الجلوس أكثر من زملائي بالمدرج الجانبي، لأشاهدهم وأدعو لهم من كل قلبي.
على جانب الصالة الرياضية صالات صغيرة تحوي أجهزة رياضية للجري والمشي والتقوية العضلية للجسم، كما أن هناك صالة للألعاب المختلفة، مثل تنس الطاولة والبلياردو.
اتجهنا لأحد أجمل اللحظات الإنسانية وأروعها، جناح الخلوة الشرعية، كيف يمكن أن أصف لكم المكان؟ هل سبق ودخلتم فندقا من فئة الخمس نجوم ؟ إذن عليكم التصديق بأن هذا الجناح مثله تماما، بعدد غرف يصل لأكثر من ثلاثين غرفة إضافة لأجنحة خاصة للعرسان، حيث تتكفل إدارة السجن بقيمة احتفالات زواج النزلاء، رغم مرارة القضبان، لكنها الإنسانية والرعاية والمسؤولية الحكومية التي تتبناها وزارة الداخلية.
فقد أقيمت أكثر من مناسبة زواج كانت ناجحة، يسمح للأقارب بحضور الزواج والمشاركة فيه، ويعطى للنزيل العريس امتيازات خاصة تكشف له أن الدولة لا تعتبره سوى إنسان أخطأ وسيعود لرشده مرة أخرى، وكل ذلك لصالح أمن الوطن أولا وأخيرا، الذي لا أحد ينازع عليه.
سألت أحد النزلاء وأنا اقابله وجها لوجه: اسألك بالله هل ما نسمعه عن التعذيب والتنكيل في مثل تلك الإصلاحيات، صحيح؟ ابتسم وقال بالحرف الواحد : أنا سأحدثك عن نفسي، وعن ما أعرفه عن رفاقي بالجناح، لم نتعرض لأي تعذيب، حيث نقضي محكومياتنا بشكل هادئ، رغم مرارة فقد الأهل والزوجة والأم والأب، والحمد لله أننا هنا ولسنا في دولة أخرى.
في قسم مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة، دار حديث طويل بيننا وبين أعضاء المركز، انتهى باتفاق على أن المملكة العربية السعودية ومن خلال اعترافات النزلاء والأجواء الدولية الحالية، تتعرض لا بشع حرب قذرة تمس استقرارها، وأن توفيق الله ثم حكمة القيادة وقوتها وتلاحم المواطنين لازال السد المنيع القوي، لوأد كل مخططات الخبث، التي تحاول استهداف الشباب، بل تتجاوز لاستهداف عناصر نسائية بغية الشهرة الإعلامية والترويج للعنف.
خرجت ومعي الوفد الزائر من البوابة الخارجية للسجن، وأنا متيقن بأنه لا يمكن لأحد أن يزايد على تضامننا مع محنة وكرب أبنائنا خلف أسوار هذا السجن، الذي أوقعهم فيه التغرير والخطأ، ولا يمكن لأحد أن يبتزنا بما نكنه من حب وعاطفة لمن هم وراء القضبان، ولا يمكن لأحد أن يشكك في شوقنا لرؤيتهم أعضاء فاعلين في مسيرة الوطن، لأننا ندرك تماماً أننا كمواطنين أمام مقياس العدل والشريعة، وأمام متطلبات الحقوق والواجبات، التي لا تستقيم الحياة بدونها، فمن يخطئ منا، له علينا النصح والإرشاد، والتقويم والتصحيح، وسيجد عقابه الذي سيكون عليه كمشرط الطبيب، المؤلم قبل عافية ستدوم بحول الله.
كذلك، ليس لأحد أن يصادر "حالة الامتحان" والكرب التي عشتها بكل تفاصيلها أمام النتيجة المنتظرة، التي كانت عبئاً ثقيلاً أخشى سقوطها على أحلامي وتطلعاتي، فقد كانت أخبار الوكالات الدولية، والتقارير الصحفية، والوثائق، التي تملأ الفضاء عن مآسي السجون في الدول القمعية والثورية كالبعبع أمام ناظري، أخشى أن تجد لها موضع قدم في "إصلاحية الطرفية" وهو الأمر الذي تجاوزته بكل فخر واعتزاز، لأجد في تلك الإصلاحية كل التقدير والاحترام للنزلاء، وكل التضامن والوقوف والدعم لهم والصبر عليهم من قبل المسؤولين.
حينها، أستطيع الآن أن أواجه كل من يريد النيل من إنسانية ونبل وأخلاق مثل تلك المؤسسات الرسمية، التي وضعت للتأهيل والإصلاح، ورد الحقوق لأهلها.واعتبار من بداخلها مواطنين أخطأوا وسيعودون بحول الله وقوته للصواب وماعلينا إلا الوقوف معهم لطريق الهداية والرشاد.