د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يشتاقنا التراث ونشتاقه، وتصبح مهرجانات استعادته وسيلة لبث الحنين، وتراثنا السعودي تيار عميق يحمل ذخيرة من الأمجاد تشرق رموزها، وكما هو احتفاء ملكنا سلمان -حفظه الله- بكل الرموز الوطنية القديمة التي تكسب الحاضر حيويته، كان موعدنا في ليلة الأربعاء الماضي مع تدفق غزير لشكل أثير من تراثنا وهي العرضة السعودية, كما كان الاتصال بالنموذج الفني التاريخي من وشائج تلك الليلة أيضاً، فازداد وهج تلك الليلة عندما حلّ ملكنا سلمان -حفظه الله- في قلب العرضة مشاركاً ومحتفياً من خلالها بذاكرة الوطن التراثية الخالدة، فكان تشريفه -حفظه الله- اختزالاً للتتابع الزمني للعهود الزاهرة، وحكاية ولاء وانتماء أخرى لعهود مضيئة مضت وعهود قادمة مثلى بإذن الله، فالعرضة السعودية وأهازيجها هي الحضور السعودي الأول في تاريخ الفنون في بلادنا، وذلك اللون ما هو إلا نقل لنبض الحياة آنذاك حيث معارك المؤسس -رحمه الله-, وحيث صوت انتصاراته يسجل اللحظات التاريخية التي احتضنت وطناً في حيازة ملك عظيم، وفن العرضة أيضا -من خلال اطلاعي على بعض نصوصه- لا يقع في نطاقات التهويل، أو التوظيف الأيديولوجي الفج، بل العرضة قصيدة من مشافهة الناس، ترفض وضع المساحيق, وعادة ما تخلو من زخرف القول غرورا، وقد نبتت في بلادنا فناً خالداً جميلاً بزّ وبرز، وأتى بما أشبعه وأمتعه؛ احتفظت به بلادنا تراثاً في السلم للسلوة والذكرى، وفي الحروب للنذر والنفير حيث يطلق عليه الفن الحربي لكونه اللكنة التي يفزعون إليها عند الحروب, والمقالة التي يصدعون لها، والمعول الذي كان المحاربون يجتمعون حوله، ويقفون وراءه وقد رافقت العرضة فتوحات المؤسس موحد هذا الكيان الشامخ الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود فكانت تلك الأهازيج الحربية نسق من المستويات المتتابعة وفق نسيج حماسي يسرد تاريخاً عظيماً وبطولات أعظم, يقول أحد فرسان شعر العرضة محمد بن عبدالله العوني:
مني عليكم يا هل «العوجا» سلام
واختص أبو تركي عما عين الحريب
يا شيخ باح الصبر من طول المقام
يا حامي الوندات يا ريف الغريب
اضرب على الكايد ولا تسمع كلام
العز في القلطات والراي الصليب
يا كاسب الطولات طير الجو حام
والذيب جرّ الصوت يدعي كل ذيب
ودخلت العرضة السعودية التراث العالمي ولم تتوافر لها آليات نقدية كانت سوف تكون رافداً مطمئناً خلال المناورات مع أشكال التراث الشفهي الأخرى، ولكنها سبقت ونالت وذلك لعمق المنشأ وسمو الفن وصدقه وتأثيره في أوساط المجتمع، فالعرضة ذات أوزان وبحور تختلف باختلاف أهدافها وأغراضها وأحياناً يكون للتلوين وحسن العرض وتوزيع الألحان دخل في ذلك, كما أن للعرضة نسق تنفيذي أورده الشيخ ابن خميس رحمه الله صاحب كتاب «أهازيج الحرب وشعر العرضة».
ولقد أصبحت العرضة تتنازع الأفضلية في التراث الشفهي حديثاً فحازت وتميزت؛ إذ ارتفعت قيمة ذلك التراث لكونه تسجيلاً للتاريخ ورصداً لأبعاد الزمان وعلائق المكان آنذاك حينما كانت حُزم البلاد تجتمع تباعاً بين يدي المؤسس -رحمه الله- بعد عقود من الزمان قاساها -طيب الله ثراه-، وقابل وعثاءها حتى هيأ الله لهذه البلاد على يديه من أمرها رشداً؛
نأمل أن يحظى ذلك الموروث الشعبي بكثافة إعلامية يستحقها، وبكواشف من المهتمين بهذا الفلكلور, ومضامينه الوطنية خاصة، وممن يقومون على توثيق دقائق تاريخ هذه البلاد وتفاصيله.