د.عبدالله مناع
ربما كان أجمل ما في مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة.. هذا العام، والذي لم يشهد تاريخه الثقافي الحافل الطويل.. سوى انقطاع واحد في عام 2015م، بسبب وفاة مؤسسه الراحل الكبير -المغفور له- الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. هو هذا التوسع في دائرة المكرمين من أبناء الوطن ونسائه ليشمل ثلاثة منهم: الأكاديمي التربوي وأستاذ الاقتصاد الدكتور أحمد محمد علي، ورجل الإعلام ومؤرخ الإعلام: الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، والفنانة التشكيلية التراثية الرائدة: الأستاذة (صفية سعيد بن زقر).. إلا أن اللافت والأهم في هذا (المهرجان) كان في دعوته لـ(جمهورية مصر العربية).. لأن تكون (ضيف الشرف) فيه، ولاحتواء فعالياته المصاحبة على (ندوتين) عن العلاقات المصرية- السعودية تحت عنوان كبير رائع: (المملكة العربية السعودية ومصر: تاريخ من العلاقات الراسخة والمسؤولية القومية والإقليمية)، دعي للمشاركة فيها نخبة من المثقفين المصريين والسعوديين.. كان لي الشرف أن أكون أحدهم من الجانب السعودي..؟!
* * *
بداية.. علمت كالآخرين.. بأن مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث.. سيواصل انعقاده هذا العام.. بعد أن أعلن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- عن رعايته لانعقاده في شهر فبراير من هذا العام.. أما بقية تفاصيل برنامج الجنادرية ومحتوياته، فلم أكن أعلم قليلاً أو كثيراً عنها.. إلا عندما هاتفني الأستاذ (حسن خليل): دينمو الجنادرية، ومثقفها العنيد، وماؤها العذب الذي لا يمكن الإمساك به، وسكرتير لجنة صياغة برنامجها الثقافي.. ليستأذنني في وضع اسمي ضمن المتحدثين في واحدة من الندوتين اللتين ستعقدان حول (العلاقات المصرية السعودية)، وهو يفاجئني بأن (مصر) ستكون (ضيف الشرف) في هذا المهرجان! فرددت عليه سعيداً بأن تكون مصر ضيف الشرف، ومستنكراً عليه استئذاني.. لأقول له: وتستأذنني..؟!
ورغم ضيق الوقت، وارتباطات شخصية سابقة.. كان لا مفر من أدائها.. حتى الساعات الأولى من صباح يوم الأحد.. إلا أنني كنت على موعدي في الحادية عشرة صباحاً من ذلك اليوم.. في مطار جدة، لأستقل الطائرة.. في الطريق إلى الرياض، ليصادفني حظي السعيد.. بأحد معارفي على المقعد المجاور لمقعدي، فيسألني.. عن دواعي رحلتي إلى الرياض؟ فأخبره.. بأن داعي رحلتي وليس دواعيها، هو المشاركة.. في ندوة الجنادرية عن العلاقات المصرية السعودية.. فصمت إلى ما بعد أن انتهينا من تناول وجبة الإفطار المتأخرة التي جاءتنا بها مضيفتنا، ليقول لي: أتذكر قصيدة الأستاذ عبدالله بلخير عن (مصر) التي استقبل بها الاقتصادي المصري الأكبر (طلعت حرب) عند زيارته لـ(الحجاز).. عندما كان طالباً في مدرسة الفلاح بمكة؟ قلت له: نعم أذكرها خبراً.. ولكنها تغيب عني نصاً. ليصمت مرة أخرى.. ثم يفاجئني بعد أن عبث بـ(جواله) بأهم أبياتها.. عندما سألني أتذكر قوله:
(لو مشت مصر نحو مكة شبراً
لمشت مكة إلى مصر ميلاً)
لأقول له: نعم.. وقد أعجب هذا البيت طلعت حرب، وجعله يطلب لقاء هذا الشاب في ختام الحفل - ليحييه ويهنئه لـ(شاعريته) الشابة الواعدة، ليكون ذلك البيت.. هو آخر سطر في مداخلتي الثانية والأخيرة على منصة (الندوة) في قاعة الملك فيصل بفندق الإنتركونتننتال.
* * *
قبيل الثامنة والربع.. من مساء ذلك اليوم.. كان أعضاء الندوة من الجانبين (المصري) و(السعودي) يتجمعون فوق منصتها.. حول مدير الندوة الدكتور عبدالله العساف، لترتيب المتحدثين من الجانبين..؟ فكان أن اقترحت عليه.. أن يبدأ بي لأدلي بورقتي (نصف المكتوبة ونصف المرتجلة)، ولكنه فضل أن يختتم بي لـ(غاية في نفس يعقوب) لم أنكرها عليه، وهي حرصه على تجنيب (الندوة) أي عنعنات قد تنشأ مع إدلاء الأعضاء بـ(أوراقهم).. لـ(ألملم) شتات الأفكار والأقوال حتى تخرج الندوة بتلك النتائج الإيجابية المرجوة أساساً من انعقادها ولأول مرة في تاريخ مهرجان الجنادرية، وقد أراحني الدكتور عبدالله الخثلان -عضو مجلس الشورى السعودي وأول المتحدثين- بنقاطه التسع عن العلاقات السعودية المصرية، التي استهلها أجمل استهلال وهو يصف العلاقات السعودية المصرية بـ(أنها الركن الذي يقوم عليه ما تبقى من نظام عربي هش)!! و(أن تاريخ الأمة العربية يؤكد ثقل هاتين الدولتين في أي تحد يواجه المنطقة العربية)، إلا (أن العلاقات السعودية- المصرية تعاني من تخمة إعلامية.. قادها من لا يقدِّر أهمية العمل الإعلامي).. مضيفاً (إلى أنه ليس هناك إدراك بين الطرفين لحجم الظروف التي يعاني منها الطرف الآخر)، (كما أن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها دول الخليج.. أسهمت في قلة الدعم لمصر)..؟!
ليعقبه من الجانب المصري الكاتب والإعلامي الدكتور سليمان أبو جودة، الذي تمنى -في ورقته- أن يكون عنوان الندوة (ماذا أصاب العلاقات السعودية المصرية)؟ أو (ما الذي تغير في العلاقات السعودية المصرية).. مضيفاً إلى (أن من يقرأ المشهد اليوم يجد أن حسن النية موجود لدى الحكومتين.. وهو ممتد من عهد الملك عبدالعزيز.. إلى عهد الملك عبدالله.. إلى عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز تجاه مصر وشعب مصر) ليختتم ورقته قائلاً (لكي تعود العلاقات المصرية- السعودية إلى سابق عهدها.. يجب أن تتحرر رؤية بعضنا من فكرة تطرف المواقف في الرؤى بين البلدين.. ومن حالة اللاحوار بين البلدين)؟
ليتبعه بعد ذلك المتحدث المصري الثاني الدكتور (خالد أبو بكر).. المحامي وعضو الاتحاد الدولي للكتاب في باريس.. ليوجه -من خلال ورقته- رسالتين.. الأولى: (لمن يحملون هموم أمتهم العربية ويذودون عنها).. قائلا (لعلي أقول لهم.. اطمئنوا فنحن بخير، فـ(مصر والسعودية هم الكبار)، أما الثانية فقد وجهها لأولئك الصغار من العابثين في القنوات الفضائية الخاصة ووسائل التواصل الاجتماعي.. لأسباب حزبية أو تسويقية، حيث قال فيها: (بأن عليكم ألا يهدأ لكم بال، ونبشركم أن أحلامكم ستتحول إلى كوابيس، وثقوا أن الكبار في البلدين يعلمون ماذا يعملون)..؟
* * *
ليأتي دوري بعد ذلك.. لأكون آخر المتحدثين من الجانبين، لأقول إنه لم تكن هناك حقيقة علاقات بين المملكة ومصر.. ولكن كان هناك تلاحم بين (الطرفين): مصر بـ(حضارتها وسبق ثقافتها).. والمملكة بـ(حرميها الشريفين)، وقد عاشت المملكة طوال النصف الأول من القرن العشرين.. حتى في ظل الخلاف مع الملك فؤاد حول تطلعاته في الاعتراف به (خليفة للمسلمين) بعد سقوط الخلافة العثمانية في اسطنبول في أعقاب الحرب العالمية الأولى.. في تواصل دائم، فقد كانت مناهج الدراسة المصرية.. هي مناهجنا، والمعلم المصري هو معلمنا.. الذي كانت تحرص الحكومة المصرية على انتقائه من بين أفضل معلميها إن كان من خريجي الأزهر أو خريجي دار العلوم، بل وكان مثقفو النصف الأول من القرن العشرين.. يوصفون بـ(انتماءاتهم) الأدبية المصرية.. فهذا من جماعة (أبوللو) وهذا من جماعة (الديوان)، وهذا (طحسيني) كـ(الجاسر).. وهذا (عقادي) كـ(العطار).. وهذا (رافعي) كـ(الزيدان).. بل ولم يكن هناك مثقف أو أديب من أدباء تلك المرحلة إلا وقرأ (أيام) طه حسين، و(يوميات) الحكيم، وعبقريات (العقاد)، و(إسلاميات) أحمد أمين، و(شوقيات) أحمد شوقي و(وطنيات) حافظ إبراهيم و(مجدولين) المنفلوطي، لقد كان البحر الأحمر.. وكأنه نيل كبير تقوم على ضفتيه الدولتان!!
ولأن مصر كانت الأقدر مالياً واقتصادياً -آنذاك-.. فقد أقامت (تكيتين) في كل من مكة والمدينة لتقديم وجبات الطعام لـ(قصادها) والدواء والعلاج مجاناً لهم، ويكفي هذا التلاحم الفريد.. أن كانت أولى بعثاتنا التعليمية الجامعية منذ عام 1928م تتجه إلى مصر وجامعاتها ليأتينا منها الأطباء والمعماريون والمهندسون المدنيون والزراعيون والمحاسبون والصيادلة، وعندما دارت الأيام.. كنا السباقين للوقوف إلى جانب مصر في العدوان الثلاثي عليها.. وفي حربها الكبرى لتحرير الأراضي المصرية والعربية المحتلة في أكتوبر 73م.
ولذلك.. فقد ضممت صوتي إلى أصوات بقية أعضاء الندوة -من الجانبين- الذين طالبوا بـ(إقامة منتدى إعلامي مصري- سعودي) ترعاه وزارتا الثقافة في البلدين لمعالجة هذه (البثور) الإعلامية التي تظهر على وجه العلاقات المصرية- السعودية بين الحين والآخر، فلسنا في غنى عن مصر.. وليست مصر في غنى عنا، لأقفل ميكرفوني ببيت المرحوم الأستاذ عبدالله بلخير:
(لو مشت مصر نحو مكة شبراً
لمشت مكة إلى مصر.. ميلاً).
ليفاجئني الأستاذ محمد السلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصريين.. بصعوده إلى المنصة لتحيتي وتهنئتي على ورقتي التي استرجعتها من الذاكرة فيما سبق أن قلت، وهو يقدم نفسه إليّ لأقول له: يا أستاذ محمد.. المعروف لا يعرف!!
وبعد.. تحية لـ(الجنادرية)، وقرارها الأول بـ(استضافة) مصر لتكون (ضيف الشرف).. في هذه الجنادرية التي ستختتم بعد أيام، ولقرارها الثاني بإقامة هذه الندوة عن العلاقات السعودية- المصرية الذي جاء في موعده.. على نحو لا يصدق.