د. جاسر الحربش
الرأي المتداول في البلاد المتأخرة علمياً يعتبر الفنون بكل صنوفها من أنواع اللهو والتسلية، سواء كان المجتمع يتقبلها ويمارسها أو يحاربها لدرجة التحريم . هل الحقيقة هي هكذا؟ أم أن للفنون دورا ً بالغ الأهمية في التطور المعرفي والحضاري؟. هل من الممكن أن يجتمع الاهتمام بالفنون الوجدانية الروحية مع التخلف العلمي، وهل يمكن أن يجتمع التطور العلمي والحضاري مع التخلف في الإبداعات الفنية الوجدانية والروحية؟. الجواب على السؤال الأول هو نعم بالتأكيد، والأدلة متوفرة عند الشعوب التي ترقص وتغني كثيرا ً لكن تموت كالخراف مع كل موسم قحط أو فيضان أو وباء عابر.
أما السؤال الثاني، أي إمكانية التطور العلمي مع التخلف في الإبداعات الفنية فقد تبدو الإجابة عليه سهلة ولكنها ليست كذلك . البحث عن الإجابة على هذا السؤال شغلت حيزًا ضخمًا جدًا من الدراسات والأبحاث الاجتماعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا وأمريكا، وهما القرنان اللذان شهدا انفجار الثورة العلمية والصناعية هناك، وكان معهما انفجار مماثل في الموسيقى والرسم والنحت والقصة والرواية والتمثيل. كان السؤال الأول الذي وجهه علماء الاجتماع لأنفسهم آنذاك هو: ماهي أنواع المعارف العقلية المنقولة بالفنون ؟، ومن هذا السؤال تفرعت أبحاث لا حصر لها. لن أنقل للقارئ هنا رأيي الخاص وإنما نبذة عن محاور الأسئلة التي كان علماؤهم يبحثون لها عن إجابات.
إذا كانت المجتمعات تطورت عبر الزمن من بدائية جاهلة إلى متحضرة عارفة، إذا ماهي القوة أو القوى التي أحدثت هذا التطور؟. إن القانون الطبيعي الذي يفهم على أنه القوة التي تنظم الأشياء والتصرفات في المجتمع المتعايش قد يكون مؤثرا ً في حدود معينة، لكن الباحثين توقفوا أمام حقيقة أن الإتقان أو الكمال لم يكن خصوصية ثابتة في طبائع الموجودات والأشياء كما هي . نتج عن ذلك اتفاق على أن الإتقان والبحث عن الكمال لابد أن يحدث أولا ً بتأثير القوى الوجدانية الروحية. بالنسبة للعلماء أصبح «العقل أو الفكر» ليس مجرد عاكس جامد للأحاسيس والإنطباعات، لكنه يمتلك طاقة خلاقة خاصة بداخله، وبهذا اتفقوا على أن العنصر المحرك للتطور الإجتماعي البشري يتواجد أساسا ً في الوجدان وليس في العقل المجرد، وأنه هو الذي يدفع بالإنسان نحو البحث عن الكمال المعرفي.
من هنا نشأ علم أكاديمي جديد يربط بين الخبرات والتجارب الإنسانية وبين التطور الإبداعي، وسمي هذا العلم علم الجماليات (Science of Aesthetics)، واتفق على هذه التسمية لأول مرة عام 1739م في المدرسة الألمانية لعلوم المجتمعات، ثم عمم في الأكاديميات الأوروبية.
هكذا تقرر في علوم الإجتماع البشري أن الربط بين الجماليات، (الفنون بأنواعها) والتطور الحضاري ضرورة لابد منها لانتقال الإنسان إلى مستوى أعلى من الفهم والإدراك والإشعاع العبقري والبحث عن الإتقان وإعطاء الحياة معنى يحث على التطور والتقدم باستمرار.
كلمة في الختام: الفنون في المجتمعات المتخلفة علميًا تكون عادة بدائية وسطحية وساذجة ذات إيقاع واحد وفي المجتمعات المتطورة علميًا تكون الفنون متنوعة ومحفزة واختراقية كالتفكير العلمي نفسه.