د. حسن بن فهد الهويمل
هاجس [الخلوات] الذي انقدحت فكرته في ذهني, أوحت به خلوة [أبي عاصم] التي خَرَجْتُ منها محملًا بعشرات الكتب, التي أنجزت في تلك الخلوة، وهي كتبٌ قيمة ترفد (التاريخ الحضاري) للأمة العربية.
لقد شُغِلت مشاهدنا من قبل بـ[التاريخ السياسي] للأمة الإسلامية، ووجد المناوئون في هذا الحضور مادتهم الثرية للنيل من أمتنا، والحط من قدرها.
وما دروا أن هناك تاريخاً موازيًا، لا تقل أحداثه عما وعاه [التاريخ السياسي] من فتوحات إسلامية. إنه [التاريخ الحضاري] الذي بهر المستشرقين، وأغراهم باقتحام عوالمه, وأمتنا اليوم مشغولة, مبهورة بالمنجز الغربي .
إن الفتوحات العلمية التي ابتدرها الجادون من علمائنا, تكاد تعدل بأهميتها الفتوحات السياسية.
ولمَّا يتم هذا الإنجاز المعرفي إلا على يد من نَذَروا أنفسهم للقراءة الجادة، والمتابعة الواعية، والتأليف المتنوع.
لقد أُثِرَ عن بعض الخلفاء, والوزراء اهتمامهم بالعلماء، وبالمكتبات، وتفريغ الجادين منهم للبحث، والتنقيب، والتأليف.
وما من موسوعة إلا ووراء تأليفها خليفة، أو وزير، ذكر المؤلف أفضاله في المقدمة, وأهداه العمل. والمكتبات الخاصة عند علية القوم من مكملات الوجاهة، وقد يتخذها من لا قيمة للكتاب عنده. حتى لقد رويت في ذلك لطائف مضحكة .
وكل التراث المعرفي ناتج التفرغ للعلم، والتقصي لمضانه، وقيد الأوابد، والشوارد من العلوم، والزهد بمباهج الحياة، وأضواء الشهرة.
فأين نحن من [الأصفهاني]، و[الطبري] و[الذهبي] و[ابن كثير] و[السيوطي] الذين حفظوا لنا التراث بمئات الموسوعات.
لقد ضاعت مئات المخطوطات، التي ذُكرت أسماؤها في تراجم أصحابها، ولم يكن لها أثر، ولولا جدُّ أولئك الموسوعيين، ووعيهم لضاع مع ضياعها علم غزير.
فـ[السيوطي] الموسوعي استفرغ مئات الكتب التي فقدت بالغرق، أو بالاحتراقُ، وأخرجها لنا مبوبة.
ومن المستنكر التقليل من شأن الموسوعيين. مع أن موسوعاتهم حفلت بالتقصي، والترتيب, والتبويب، وابتكار العناوين، وجمع الشوارد، والشواهد. وليست كما يقال:- خذ من هنا، وضع هنا، وقل: مؤلفه أنا. فالجمع يمهد للدرس ، والتحليل.
وعصر الموسوعات شَكَّلَ مرحلة انتقالية، ولم يكن عصر اجترار، كما يحلو لبعض المتعصْرِنِين.
وأصحابُ [الخلوات العلمية] بوصفهم صفوة الصفوة ,يحيطون أنفسهم بمئات الكتب، ينقبون في بطونها عما يودون الوصول إليه، وتقريبه للناس.
هناك (خلوات عبادة)، وتأمل عمد إليها المتصوفة، والفلاسفة، وذووا العاهات, مكنتهم من التأمل في خفايا الأنفس، وملكوت السماوات، والأرض.
نجد ذلك عند رهين المحبسين [أبي العلاء المعري]، ولما نقصد هذا النوع من العزلة، ولكنه يُعَدُّ ظاهرة تراثية، سبقت بالصوامع ,والمحاريب. لقد خلَّفت لنا رؤى، وتصورات، وهلوسات ,وسعتها كتب التراث. وهذا الاعتزال يختلف عن (الاعتكاف) الرمضاني بضوابطه الشرعية.
ولما كان (العصر الحديث) بما جد فيه من معارف، ومناهج، ومذاهب بأمس الحاجة إلى من يعيد صياغة التراث، وإشاعته، ليساير المستجدات الفكرية, والمذهبية, و المنهجية، ويدعم النظريات الحديثة، فإن نهوض القادرين بهذه المهمات من الفرائض الغائبة.
وإذا كان الله - جل وعلا- يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها، فإن (التراث الحضاري) الإسلامي هو الآخر يحتاج إلى علماء جادين ,متبتلين في محاريب العلم، ينفون عنه غبار الإهمال، ويدخلون به لزز التفاضل.
وتلك [الخلوة] التي سعدت بزيارتها، والحديث مع أقطابها، أوحت إلي بهذه الخواطر، وذكرتني بطرائق العلماء الأوائل في أخذ انفسهم بما يكفل لها الاستقامة على الجد المنتج.
فالأستاذ الدكتور [عبدالعزيز بن إبراهيم العمري] المتخصص بالتاريخ الإسلامي، وبخاصة [السيرة النبوية] التي أحبها، وتقصى أدق مفرداتها، وألَّف فيها عشرات الكتب، وأوقف عليها الأوقاف، لتظل فاعلة، متفاعلة في حياته، وبعد مماته. هو قَيَّم هذه [الخلوة]. لقد خلَّف لنا كتبا قيمة، تبحث في أدق تفاصيل السيرة العطرة، سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولما يزل يَعِدُ هو وزملاؤه بالمزيد .
ومعالي الأستاذ الدكتور [علي بن إبراهيم النملة] تفرغ من خلال هذه [الخلوة] لدراسة [ظاهرة الإستشراق] وأخرج لنا كتبا مهمة تسد فراغات، وتصحح معلومات, وتبوب معارف, وتعد فهارس.
وسعادة الأستاذ الدكتور [إبراهيم المزيني] أستاذ الحضارة، والتاريخ بجامعة الإمام خدم الحضارة الإسلامية المظلومة، واجتهد في رد قيمتها لها، وقمع المتذيلين للمد الغربي. ومن قبل أولئك الأستاذ الدكتور (عمر بن صالح العمري). هذه الخلوة المباركة صنعت منهم أصحاب مشاريع ثقافية، وعلمية.
لقد ترك لنا هذا الصنف الجاد ثروة معرفية في مجال التاريخ، والحضارة، والاستشراق. وهي معارف تتطلبها المرحلة المعاشة، وبخاصة بعد الانفجار المعرفي، وثورة الاتصالات, وتنكر المستغربين من أبناء جلدتنا لعروبتهم, وتراثهم.
هذا العصر عصر الجهود المنظمة، والمشاريع الموسعة ، والمؤسسات العملاقة. فما عاد التناوش المعرفي كافيا لإشباع الرغبات، وملء الفراغات.
فشكر الله [لأبي عاصم] الذي أوحى لي بهذا التذكير، وتلك الموعظة.
فكم في بلادي من كفاءات علمية، ورجال أعمال خيرين تبنوا الصالونات الثقافية، واستقطبوا العلماء، والأدباء، والمفكرين. ونشروا الكتب، وكرموا الرموز الثقافية. وليس هناك ما يمنع من إقامة المكتبات، وإنشاء [الخلوات]، لتمكين صعاليك العلماء، والمفكرين المعوزين من الأجواء الملائمة للانفتاح المعرفي.
فما من أحد يشك بأن الطاقات البشرية العلمية بحاجة إلى أجواء ملائمة, لتفعيلها، واستثمار امكانياتها.
ولا سيما أن أرض المقدسات بما تتوفر عليه من أمن، ورخاء، واستقرار؛ مواتية لتنفيذ مثل هذه المشاريع الحضارية.
وكيف لا يبتدر الأغنياء منا فضائل الأعمال، وفينا محسنون, يلتمسون مصارف الصدقات، والتبرعات، وخيرهم بلغ الوهاد، والنجاد، وشهد به القاصي، والداني.
إنها دعوة صادقة للمرتهنين لمصارف المشاريع الخيرية التقليدية. فمبادرة المستجد خير من الثبات على القديم.
إذ ما الذي يمنع عُمَّار المساجد من بناء المكتبات الواسعة, وتزويدها بالكتب القيمة والخلوات العلمية, بحيث يأوي اليها الباحثون الذين لا يجدون في بيوتهم أجواء ملائمة للخلوة العلمية.