محمد آل الشيخ
مفهوم الحرية عند العرب يختلف عنه عند الغربيين؛ العرب يَقصرون معنى الحرية على كل من ليس عبدا رقيقا بالمعنى المباشر للعبودية؛ ففي كتب الفقه الموروثة -مثلا- إذا جاء ذكر الحرية فإن معناها ينصرف حصرا إلى كل إنسان غير مملوك لإنسان آخر، يتصرف فيه تصرف المالك بأملاكه. أما في الثقافة الغربية فالحر هو من يملك قراره، ويتصرف من تلقاء نفسه دون قيود، ولا يخضع لأية موانع تحد من قدرته على اتخاذ ما يريد أن يفعل. ومعنى الحرية في الثقافة الغربية أصبح اليوم عند الشعوب المعاصرة هو معنى حرية الإنسان.
صحيح أن هناك تجليات بلاغية عند العرب كانت ترقى بمعنى الحرية مجازيا إلى أوسع من معنى الرق إلا أنها لم تتجذر كمفهوم راسخ لقيمة حقوقية، تدل على سمو الإنسان، مثل المروءة والأنفة والإباء والكرم، والشجاعة التي هي من القيم النبيلة عندهم. لذلك تجد أن هناك من مازال يعتقد بأن إلغاء الرق، وعبودية البشر للبشر، من المُحدثات التي يجب تصحيحها، بحجة أن الدين لا يُحرمها، كما أنهم يعتقدون أن سبي الأسرى من الأمور المشروعة عند حرب غير المسلمين كما يزعمون. وهذا - بالمناسبة - ما يقوله الدواعش ويدعون إليه ومارسوه بالفعل في خلافتهم المزعومة.
واسترقاق البشر، وسلب حرياتهم، من المسائل التي سمح بها الإسلام في زمن ماضي على اعتبار مبدأ (المعاملة بالمثل)، لذلك يجب أن تُقرأ مرتبطة بمنطق وأعراف زمنها، ولا تنسحب على أزمنة أخرى.
ومفهوم الحرية بالمعنى الغربي للمصطلح يكرس الإنسانية والمروءة، ويجتث العبودية بين بني البشر، وفي تقديري يجب أن يصبح اليوم من القيم الإنسانية المشروعة، لكونه يتماهى مع روح الإسلام ومقاصده العليا؛ فمن يقرأ في تاريخ الإسلام بعد خروجه عن حدود جزيرة العرب، وتماسّه بثقافات أخرى، سيجد أنه استفاد منها، واستوعبها، وأثرى بها بعض علومه، والحرية بمعناها الجديد، وغير الموروث، يجب أن نتعامل معها كمفوم ومصطلح مثلما كان الفقهاء الأوائل يستفيدون من المعارف التي لم تكن نابعة من الإسلام عند نزوله، لكنها كانت تواكب مفهوم العدالة الإنسانية التي يعتبرها الإسلام جزءا أساسيا من رسالته.
وأنا ممن يذهبون إلى القول بأن رفض بعض الغلاة لليبرالية، رغم أنها ترتكز على مفهوم (الحرية)، وتنادي إلى الرقي (بكرامة الإنسان)، وتسعى إلى تكريس خصوصيته الفردية، يعود إلى أن ثقافة العرب لا تعنى بالحرية، إلا بكونها ضد الرق والعبودية. كما أن المفاهيم الليبرالية لا تختلف إطلاقا مع أسس الإسلام، التي تتماهى قيمه وتوجهاته الأساسية مع الليبرالية بمعناها الواسع. فالليبرالية تعطيك من الحقوق الإنسانية بمختلف أشكالها ما يتناسب تماما مع مقولة عمر (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)؛ فلا سلطة لأحد على أحد إلا سلطة القانون، الذي يتراضى الناس بعضهم البعض على مرجعياته، وتنتهي حرية الفرد إذا ما ابتدأت حرية الآخر. إذا استوعبت ثقافتنا مفهوم الحرية بهذا المعنى، نكون قد أزحنا جانبا أهم العقبات في طريق الليبرالية، التي هي الركن الركين للتنمية الشاملة.
إلى اللقاء