ليس بالأمر الهيِّن أن تجلس مع رجل يكبرك بعقودٍ من الزمن مُكتنزةٍ عطاءً وإبداعًا، وتجد منه حفاوةً بك وتواضعًا لك؛ لا ريب في أن هذا سيغمر نفسك إجلالاً له، وإكبارًا لصنيعه.
في عشية يوم الاثنين 1438/5/9 زرت بصحبة بعض المهتمين بالشعر والأدب الأستاذَ الشاعرَ خالد بن محمد الخنين، الذي استقبلتْنا بشاشتُهُ وابتسامتُهُ، وقَرانا بأحاديثه الحالِيَة، وذكريات عهوده الخالية، وتجربته الشعرية الضاربة بأطنابها في أغوار الزمن، حتى انصرم الوقت فانصرفنا. وعلى عادة الكرام فقد شيَّعنا عند الانصراف حتى الباب، وودَّعنا بالشكر والدعاء:
ينسب الفضل إلى غير ذويهِ
ويواري فضله عن عارفيهِ
وكذا الحُرُّ إذا أسدى صنيعًا
حسنًا من نُبله لا يَدَّعيهِ
كما زوَّدنا بدواوينه ومؤلفاته، ودعانا إلى زيارات أُخَرَ يأنس بها - كما يقول - معنا.
كان تنسيق اللقاء يسيرًا جدًّا - على خلاف ظني -؛ فقد تكرَّم ابن أخيه الصديق الصدوق أبو داليا محمد الخنين بعد أن رغبت إليه بتنسيق الزيارة دون تأخر ولا مماطلة منهما - المنسِّق والمنسَّق معه -، ويسر الله اللقاء - بفضله ومنته -؛ ولكني ندمت على تلك الأيام التي أرجأت فيها تنسيق هذا اللقاء؛ تهيُّبًا من الحاجز الوهمي الذي سيَّجه حدسي على تفكيري!
فقد يختلق الإنسان حواجز وهميةً تحول بينه وبين أمانيه، ولكنها سرعان ما تتلاشى وتضمحل إذا أزمع الأمر.
لقد أحسست في أثناء أحاديث الشاعر خالد الخنين بامتعاضه من التفاعل الضعيف مع الشعر الفصيح، وعدم الاهتمام به وبمناسباته وأمسيَّات شعرائه، في حين أن الشعر العامي يحظى بمتابعة كثير من الناس واهتمامهم، وفي لحظة عتب قال - مبتسمًا -: لذا قررت هجر الشعر! وقد أشرت إلى ذلك في إحدى قصائدي الأخيرة، ولعله يعني قوله في قصيدته (مضايا .. التفاح المُضرَّج):
أقسمت إن لم تعُدْ للشام حرمتها
ويحتفي بردى بالنصر مبتسما
وأن تعود بنو مروان زاهيةً
خيولُها قد أزالوا الرجس والصنما
فلن أناجيَ بعد اليوم قافيتي
وأهجر الشعر والأوزان والقلما
و(قرار هجر الشعر) الذي اتخذه الشاعر هنا مُقيَّدٌ بمأساة سوريَّة - كشف الله كربتها -، وإني لأضمن أن الشاعر لن يحنث في يمينه؛ فستعود مياه بردى صافية نقية، وستشرق أرض الشام بأنوار النصر عما قريب - بإذن الله -.
ما أوجع أن يعيش الشاعر المبدع غربةً في حياته وعزلةً عن مجتمعه! لا يجد منهم من يقدر عطاءه ونتاجه، بخاصة إن كان من أرباب العطاء الشعري المتدفق دهورًا. وإن داء الجفاء فينا الذي يشكو منا ومنه كبراؤنا لم تُجْدِ معه عقاقير التجارب التي تمنحنا إياها الأيام وحوادثها، فكم ندمنا على التفريط في وصل علمائنا وأدبائنا وشعرائنا ووجهائنا ... بعد أن فصل بيننا وبينهم الموت، وفي الوقت نفسه ما زلنا نصِرُّ مُكابرين على التفريط في حق من بقي منهم بيننا!
خادَنَ خالدُ بن محمد الخنين الشعرَ منذ عام 1383هـ أو 1384 هـ -، وظلا طوال هذه العقود خدينَيْنِ لم يذرْ أحدهما صاحبه، بل زادت السنون صلتهما، ووطدت علاقتهما، وتمخَّضت هذه الصحبة عن ستة دواوين مطبوعة وديوانين مخطوطين، ترجم فيها الشاعر خالد الخنين سيرة الخدينَيْن ومسيرتهما.
وإني لأدعو طلاب الدراسات العليا في الأقسام الأدبية إلى الوقوف على دواوين الشاعر خالد الخنين، وإبراز ما فيها من خصائص فنية، وظواهر أسلوبية، وسوف يجدون فيها شعرًا خليقًا بالدراسة والتأمل؛ ليضيفوا بذلك لدراسات الشعر السعودي، ولمكتبة النقد الأدبي دراسةً جديدةً، إخالها ستكون مفيدة.
- فهد بن علي العبودي