صباح الخير يا عرب!
- في وقت يفوز برنامج تعليم اللغة العبرية في إحدى الجامعات الأمريكية الرائدة في مجال تعليم اللغات بجائزةٍ كبرى كأفضل برنامج تعليم لغة ثانية بين عشرات البرامج المتنافسة لعشرات اللغات، تتركز جهود كثير من اللغويين العرب على التنازع في مباحث ثانوية، والصراع على هوامش جانبية لم يعد يحفل بها الزمن ولا تيار اللغة الجاري على مستجدات حاجات التعبير المعاصرة، وربما أفنى الأقوام الأزمان إثر الأزمان وتداقوا بينهم أعطار منشم في إثبات صحة ذاك المذهب وخطل الآخر وخلطه، فأين مكمن الخلل؟
- ربما لم يكن الأمر قصورًا في الكفاءات أو شحًا في المؤهلين والمؤهلات، قدر كونه ضعف تقدير في توجيه الجهد المصروف إلى ما لا ينبغي أن يُصرَف فيه، مما يبعد عن حقيقة العلم فيقرب من واقع ضده، من ترك التماس التشخيص إلى الشخصنة والتباس هذه بتلك. والشغل عن العلم ليس شغلًا بالعلم. ومتأمل الجاري ليس بحاجة إطالة نظر لكي يدرك قصور الوعي –عامةً- عن تحديات العصر في هذا الباب، وانصراف الاهتمام والمهتمين في كثير من شؤونه وجوانبه عن الحاجات الملحة إلى ما لا حاجة للباحث أو الناطق أو المُحَاوِل فيه إلا ما شاء الله.
- ما موقع اللسان العربي من عالم التقنية والعصر الرقمي اليوم؟ قد يؤسي التأني في حقيقة الجواب، فثاني أكثر الأبجديات انتشارًا لا ترضي حضورًا في نسبة المحتوى على الإطلاق مع كثرة الحاضرين، والمثال الصارخ على التأخر المخجل المؤسي بحق ألا يكون لهذا اللسان – كشأن كثير من الألسن الحية والميتة! – موقعٌ شبكيٌ على الطريقة المعاصرة يتبنى كثرة المقبلين عليه من غير أهله من كل أصقاع الدنيا، في حين تنعم لغاتٌ محصورةٌ –إن في أقاليمها أو مظانها-قد كان للعربية أياد عليها تشهد آثارها بها- بما لو توفر للعربية بعضه لكفى وأوفى، فمن الله سؤال الهداية والسداد وألا يخيب جهد أو يضيع.
- للسان العربي فضلٌ وسماتٌ تميزه، يدركها الناظر في أعطاف آيات اللسان وإن قيل بغير ذلك، ولقد تواترت بفضله وتميز سماته مباحث موثوقة، وأفكارٌ محققة، وإن لم تكن عند بعض مرضية، وأنى لا وقد حمل هذا اللسان مشعل حضارة الإنسان آمادًا طويلة، وحقبًا متتابعة، دون أن يضيق بها أو يكل عنها، وما يزال في سعة وإن بدا لأحدٍ توهمًا غيرُ ذلك، وأنى لا، وقد كان اللسان العربي حلقة وصل الثقافات المختلفة ووسيط نقل المعارف المركومة، ومشهودٌ له ومحفوظة ٌ «مساهماته الجليلة في إثراء العلوم والثقافة العالمية والفلسفة والأدب والفنون»*. وتلك لعمري مفارقةٌ مؤلمة أن يتأخر اللسان العربي عن مواكبة مقتضيات عصر العولمة والتعولُم والانفتاح والانتشار ويتقهقر إلى ما دون حدود الأقْلَمَة والتأقلم والانحسار والانكسار، وهو الذي كان شطر العالم القديم يدون بحرفه ويرسم بخطه ويضع ثقافته ومقدراته رهن أبجديته، والله المستعان.
- واقع لسانٍ ما ليس إلا انعكاسًا لواقع ثقافته، وممارسات أهله وجوانب نظرهم فيه ليس إلا تصويرًا صادقًا لقيمة ما يصدر عنهم، وهل يحمل الثقافة كلسانها؟ وهل يعبر عنها وعن أهلها مثل مُصْدَر أهلها؟! وعليه ينبغي وينبني السؤال عن مسار الثقافة وثقافة المسار بين التقويم والتقديم.
- وكلٌ يدعي وصلًا بليلى، المتحيز للقديم والمتحفز للجديد، والزاعم التمسك بالأصول والمدعي أنه إنما بغيرها يكون الوصول، ومتى كانت المعرفة والحقيقة يومًا انتماءً لتيار؟ أو ارتماءً في حضن مذهب أو توجه؟ إنما الضالة الحكمة، وإنما الضال عنها كثيرٌ ممن يزعم امتلاكها بله طلبها.
- ما أبعدنا اليوم عن الواقع: واقع حالنا، وحال لساننا، وحال المعارف، ونشاط الأمم فيها من حولنا وتجاريهم وتجاربهم فيها وتسابقهم وتسامقهم في ميادينها، والله المستعان على كل حال.
- وكأني بلسان الحال يصيح: أما للساننا عيبٌ سوانا!
- ترك المدارك إلى المعارك ليس إلا الجهل الذي لا ينبغي لمن لا ينبغي له، وفضلٌ ليس فيه من فضل.
... ... ...
* إيرينا بوكو?ا، المديرة العامة لمنظمة اليونسكو.
علي الجبيلان - الولايات المتحدة - إنديانا