سهام القحطاني
آمن الإنسان الأول بالبطل الخارق الذي يظهر وقت الصراع لينتصر لمفاهيم عصبته العقديّة، وذلك الإيمان حوّل الأبطال إلى أنصاف آلهة وفق ما يمتلكه مفهوم البطولة من قوة خارقة، وهذا أمر وثّقته الأساطير والإلياذات الأدبية.
ورغم التطور العقلي والعلمي والفكري للإنسان إلا أن فكرة «القوة الخارقة» ظلت مسيطرة عليه حتى تبلورت من خلال «السوبرمانية» أو الإنسان الذي يملك القوة الخارقة أو القوة التي لا تقهر، وإن كان مفهوم القوة الخارقة أو القوة التي لا تقهر بدوره يتطور مع ذلك الفكر لتتقلص القوة العضلية في مصلحة توسع تأثير العلم في تثبيت راسخ نوعية تلك القوة.
وستظل السوبرمانية سواء في قصديتها أو رمزيتها رغم تطوّر الفكر الإنساني، بل تمتلك قدرة مسايرة ذلك التطور ومرونة التشكّل بأطره التقدمية.
وتستمد السوبرمانية استمرارها من خلال حتميتي «الصراع والقوة».
والسوبرمانية سواء في نسختها القديمة أو الحديثة لا يمكن ضمان فعاليتها إلا في حالة استمرار الصراع بين المعتقدات سواء الدينية أو الفكرية أو الثقافية أو السياسية، والتحكم في فعالية ذلك الاستمرار يرتكز أولاً على استراتيجية الشيوع التي تُؤسس في ضوء الانحراف الدلالي للثنائيات وغاياتها.
غالباً ما تحمل قصدية الشيوع إثباتاً لفكرة خاطئة على الأغلب؛ تحمل «غاية لتحقيق واقع متحول مع سبق الإصرار والترصد»، وهو ما يجعلني أزعم أن «لا شيوع دون قصدية»، وأهم وسائط الشيوع المعرفة سواء من خلال المعلومة أو العلم أو الدراسات البحثية أو النظريات، مثل دراسات الاستشراق ونظرية صراع الحضارات.
تعتمد استراتيجية الشيوع بآلياتها على التشكيك في مقتضى أصل قيمة «التنوع الإنساني» الاختلاف أم الصراع.
في حين أن أصل القيمة القائم عليها التنوع هو الاختلاف لقصدية التكامل، ولو أراد الله أن تتوحّد الإنسانية على دين واحد أو لون واحد أو عرق واحد أو لسان واحد لحدث التوحيد فهو من يملك قدرة «كن فيكون»، لكن الحتمية ها هنا هي أن «التكامل مبعثه التنوع لا المطابقة»، وهو عكس الشائع، وهو شيوع ليس حديثاً إنما قديم قِدم الأزل، انبنى على «وهم استحقاقات الفوقية» التي غالباً ما تقود الإنسان إلى الصراع والتنافسات الشرسة والرغبة في الهيمنة والاستحواذ، واستجلاب خصائص تميز الآخر لاكتساب إضافتها.
شيوع حوّل تنوع الإنسانية إلى إشكالية بدلاً من كونها خاصية استثمارية للتكامل، وأزاحها عن توصيفها الأوليّ الداعم للقيمة الجمعية في تكاملها.
وهي إزاحة تمت من خلال تغييب قصدي لقيمة الأصل «علاقة الاختلاف» ونشر الإحلال الموازي المضاد لتلك القيمة من خلال «علاقة الصراع»؛ ليصبح الصراع هو القصدية المباشرة للاستحواذ والهيمنة.
إن انتقال أصل التنوع بالإحلال من قيمة الاختلاف إلى علاقة الصراع حدث من خلال ما أسميه «بإجلال القوة»، التي أسست فيما بعد «النموذج الأعلى للقوة» السوبرمانية.
وبذلك أصبحت القوة هي التي تتحكم في مسارات التنوع وتوصيفاتها وفق مصلحة ممثل السوبرمانية، وهو تحكم أضعف بل أزال أصل قيمتها لتحويله (التنوع) من أصل للتكامل إلى مساند صامت يهدف إلى تعزيز الهيمنة الأحادية للقوة الأعظم.
لا فكرة تخلو من قوة، وهذا مبدأ بديل وفق السوبرمانية حل محلّ «لا قيمة تخلو من قوة».
وهو إحلال يعتمد على أن القوة في نسختها السوبرمانية ليست قدرة معنوية بل هي قبل ذلك قدرة إجرائية تحوّل القيمة إلى طاقة لخلق وجود بصفتيه الاعتبارية والواقعية.
كما أن كل فكرة فاعلة هي حامل لقوة، والفاعلية هنا ليست مقصورة على الخير إنما هي شاملة للشر «فالشر كالخير قوة في ذاتهما» قوة تنبثق من طبيعة ومستوى ودرجة ما يتحكمان به من سلطة وتأثير وهيمنة أو ما تسمى «بممثلات القوة»، وبذلك فالسوبرمانية تنظر إلى الشر وفق ما يخالف أو يتعارض مع قواعد عصبتها العقدية، ووفق هذا المعيار تتشكل القوة «غير الشريفة» ها هنا أو القوة الظالمة التي لا تغلب في إيجاد منطق تعليلي لتشريع عدم الشرفية وحتمية الظلم، منطق يتكئ على حسن نية الغاية باعتبار الفلسفة الشيطانية «الغاية تبرر الوسيلة».
وهذه الغائية هي التي صنعت البطل في صورته «السوبرمانية» الذي ينتصر لحقوقه في مقابل تدمير حقوق غيره باعتبارهم ممثلين «للضعف والشر».
كما أن هذه الصورة «ألفت معاييرها للشر والخير» التي تنطلق من اعتقاداتها الخاصة، وهي اعتقادات حوّلت التنوع في مطلقه إلى علاقة صراع؛ ليُصبح الآخر في تلك السوبرمانية هو «مشروع لعدو».
فالقوة السوبرمانية ليست دائمًا «شريفة» وغالبًا «ظالمة» وتستقيم على منطق «ميكافيلي» لا تقبل أن تجاورها قوة أو تتوازى معها حضارة؛ فهي يجب أن تكون ممثلة للمطلق، ومستحوذة لذات المطلق، وفي سبيل استحواذ المطلق تُشرّع لنفسها «لا ضوابط ولا قواعد ولا أخلاقيات ولا إنسانية لقوتها».
إنه منطق يشبه وصية الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» لوزير دفاعه لحثه على تصفية الهنود الحمر «لا تضع هذه البلطة جانبًا حتى تفنيهم». هذا هو دومًا منطق السوبرمانية قديمًا وحديثًا «لا تضع هذه البلطة جانبًا حتى تفنيهم». ورغم اختلاف الأسلحة من زمن البلطة إلى زمن الطائرات دون طيار ظلت ذات الغاية وستظل واحدة «استغلال السوبرمانية من أجل فناء الآخر».