د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يناظر السائح في حالته تلك عدداً من الأشخاص، فهو يشبه الضيف الذي يحل على بلد ولا ينتمي إلى أهلها أو ينتمي إليهم ولا يملك فيها منزلاً ووجوده فيها طارئ، وكان الناس يحتفون بالغريب، ويدعونه إلى منازلهم يطعم من طعامهم، وما يسمى بـ»الخطار»، وهم الضيوف الذين يخطرون الرجل في منزله على غير موعد وربما معرفة سابقة، ويجب عليه أن يقوم بضيافتهم، وربما مبيتهم أيضاً في ليلة واحدة.
وليس بالضرورة أن يكون الضيف خاطراً وإنما المقصود أن الرجل الغريب يصبح ضيفاً في بلد يؤمن بقيم الضيافة، فيتولى أهل البلد المضيف طعامه وشرابه، ومبيته.
بل الأبعد من ذلك، وهو أنه يرى من العيب عليه أن يأخذ ثمناً مقابل ما يقدمه من طعام وشراب، ومأوى، أو يناله من خدمات، ولا يزال الناس يتفاخرون بكثرة ضيوفهم، ومن يزورهم، ويحل في ديارهم، ولا يسأل عن الضيف الحال أهو غريب أم معروف، أو هو بعيد أم قريب، وهو صديق أم عدو:
إذا ما وضعت الزاد فالتمسي له
أكيلا فإني لست آكله وحدي
وهو يعد هذا من الأخلاق الحميدة، ويعد ذلك جزءاً منه، ومن حياته، فهي أثمن من أن يأخذ عليها مقابل، وهذا يضعه في مقام المتفضل على الغريب الحال، وصاحب اليد الطولى، والمعروف. في حين أنه لو أخذ مقابلاً فإنه سيعتبر نوعاً من الإهانة أن يكون عاملاً عند هذا الغريب الذي ربما في نظره لا يستحق هذا الشرف، وسيكون موقعه الاجتماعي أقل منه، وهو ما لا يريده، ولو استضاف رجلاً ثم اشترط عليه أو طلب منه مالاً بعد انتهاء مراسم الضيافة لأصبح نادرة يتندر به الناس.
وإضافة إلى «الضيف»، هناك «الرحالة»، وهو شخصية في -الغالب- يقوم بالارتحال من مكان إلى آخر، وقد يطيل البقاء في المكان قبل أن ينتقل لسواه، وقد يقوم بالمغامرة واستكشاف الأشياء، ويسجل المذكرات، والملاحظات، والمشاهدات على ما يراه أمامه.
وعادة ما يتواصل الرحالة مع أبناء البلد الذي ينزل فيه، وقد يقيم فيه صلات طيبة، ويلقى في كثير من الأحيان الاحترام والتقدير من البلد الذي ينزل فيه، وحكاية ابن بطوطة في رحلته الطويلة حين جاب الآفاق، وحضر مجالس الخلفاء والأمراء، بل كلفه بعضهم بالقيام بالأعمال لصالحهم، وينزل في ضيافتهم، ولم تكن هذه خاصة بابن بطوطة بل من يقرأ تاريخ الرحالة الأوربيين إلى البلاد العربية يجد أن عدداً منهم نال هذه الحظوة فيها ولدى سلاطينها أو علمائها ووجهائها، كما أن مذكراتهم وملاحظاتهم تؤخذ بالعناية والترحاب، والدراسة، من البلدان التي قيدت هذه الملاحظات حولها.
****
السائح في الغالب يسافر للنزهة، والمتعة، والراحة والاستجمام، ولذا فهو يبتعد عن الرسميات، ويتجه إلى التخفف مما يخرم أهدافه تلك، ولذا لا يبعد أن يظهر على صفة لا يظهر عليها كثيراً، ويبتعد عما يجعله يعود إلى رسميته، ومحافظته ممن يعرفهم، أو ربما يشترك وإياهم بمنظومة قيمية واحدة.
ولذا هو يحتاج أن يعيش في هذا البلد كما يعيش في بلده، في المستوى المعيشي نفسه الذي يعيشه فيه، وكما يعيش أبناء البلد أيضاً فيه. ولذا، فالسياحة تعني فيما تعني أن يتمكن السائح أن يعيش في أي مكان حتى ولو كان غريباً وكأنه أحد أبنائه، وهذا يتطلب قدراً من الأمن الذي يجعل السائح ليس غريباً، وإنما يملك قدراً من المواطنة، تمكنه من العيش بسلام، وتتطلب نوعاً من الوعي لدى المواطنين لقبول أن يشاركهم ملذات بلدهم شخص طارئ عليه مقابل حفنة من الدراهم، بل ربما يتجاوزه في ذلك ويتفوق عليه بما يمكنه أن يبذل في سبيل ذلك، وهو ما يثير في أحايين غيرة الساكنين الأصليين حيال هؤلاء الطارئين، ويدفع في كثير من الأحيان إلى الجرائم التي نسمع عنها وتقع في حق السياح في وسائل الإعلام كالاختطاف، والسلب، والقتل، وآخرها ما وقع في أحد متاحف تونس.
وعلى هذا، فالسياحة تتطلب ثقافة اجتماعية قابلة لأن توجد الخدمات السالفة الذكر بمقابل مادي، وأن توفر له من يقوم بهذه الخدمة، ويحدد لها أسعاراً وهو ما يسمى بـ»تسليع الذات»، بحيث يكون كل شيء قابلاً للبيع، فيبيع وقته، ويبيع الطعام، ويبيع المكان، ويسمح للسائح أن يستمتع بكل ما يتيحه المكان، بل إن الثقافة أيضاً تتحول إلى سلعة حيث تقدم بأشكال يجعلها قابلة لأن تعاش من قبل السائح الذي يجيء في وقت معين، والتاريخ كذلك حين يكون مرتباً ومجهزاً بصورة تجعله مقبولاً لدى السائح، ومتناسباً مع تصوراته، وثقافته. هذا السائح غريب، وضعيف ولذا فإن ابن البلد يقاوم رغبة في أن يسلبه ما معه وربما أهم ما يملك، إذا كان البلد فقيراً لا يملك سوى التاريخ، وبعض الآثار والأجواء الطبيعية الجميلة، ويتحول إلى أجير وعامل لديه، مقابل ثمن لا يعد شيئاً في حسبة السائح، ولذا هو بحاجة إلى أن يقبل بمفهوم العوض والمقايضة، يدفع مبلغاً من المال في مقابل استمتاعه في السكنى، والجو، والطعام وخلافه مما يتوافر في المكان السياحي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا السائح بوصفه شخصاً طارئاً على البلد، وحالاً غريباً هو يمثل أيضاً ضيفاً على البلد الحال فيه، وفي البلدان التي تؤمن بقيم الضيافة، والكرم، وتقديم الغالي له دون مقابل إلا جميل الثناء، تصبح المعادلة مختلفة، فكيف يتحول ذلك الرجل المضياف الذي يقدم الطعام لمن يعرف ومن لا يعرف إلى رجل يأخذ مقابل مسكنه شيئاً من الدراهم، أو يضيق ذرعاً بمن يحلون بجواره راغبين بالاستمتاع بالطبيعة والمناظر الخلابة، وهذا فعل لا يقوم به إلا اللئام.
وإذاً قبل أن يأخذ أجراً مقابل أن يعد له مسكناً، أو طعاماً، فهذا يعني بصورة أخرى أنه يتحول إلى أجير لدى رجل أجنبي في الوقت الذي يستطيع أن يأخذ ما معه من المال دون الحاجة لهذه الخدمة أو بأقل ما يمكن أن يقدمه من الخدمة من خلال الخداع والكذب والخلابة والاحتيال حتى يزول ما يشعر به من إحساس بالدون، ويدفع إلى الظواهر التي أشير إليها من قبل.