د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يخبرني أحد الأصحاب أنَّ والدته حين علمتْ أني أصدرتُ كتاباً تعجَّبتْ وقالت: «إلى هالحين عمر في هالكتب! ليش يضيع وقته! هو فيه أحد يقرا»، ضحكنا على هذا الموقف الطريف، غير أنه أثار فيَّ تساؤلات كثيراً ما تتردَّد في خطابنا الثقافي: هل فعلاً نحن شعبٌ يقرأ؟ ما مدى شغفنا بالقراءة؟ وكيف ننظر إلى هذا الفعل الثقافي؟ هل نتعامل معه بوصفه ضرورةً إنسانية أو مجرَّد ترفٍ لا داعي له؟ هل لدينا إحصاءات دقيقة وحديثة ومستمرة لهذه القضية؟ ماذا فعلتْ وسائل الإعلام لتوعية المجتمع بأهمية القراءة؟ وما حجم الجهود المبذولة من المؤسسات الثقافية لترغيبنا في سعة الاطلاع وزيادة الحصيلة المعرفية عن طريق الكتاب؟ وهل يمكن الاعتماد على إحصاءات معارض الكتب السنوية للحكم على مستوى وعي المجتمع بأهمية هذه الممارسة؟ وهل يعكس حجم إنتاجنا الثقافي على مستوى الإصدارات مدى تعلق الشعب بالقراءة وإدراكهم لضرورتها؟
إننا بحاجة ماسة إلى دراساتٍ مستمرة ومحدَّثة لكشف أبعاد هذه القضية، غير أني أكاد أجزم أنَّ نسبة القراء الحقيقيين في المجتمع قليلةٌ ضعيفة، وليستحضر كلُّ واحدٍ منا مجموعةً من أقاربه لينظر في واقع الأمر، ويحكم بنفسه على مدى اهتمامهم بالممارسة القرائية النافعة، وليتأمل في حجم الأوقات التي تُقضى في الأعمال اليومية والانشغال بالتقنية، مقارنةً بالوقت الذي يُقضى مع كتاب نافعٍ مفيدٍ يمكنه أن يضيف إلى صاحبه قيمةً ثقافيةً حقيقية.
إنني حين أتحدَّث عن هذا الموضوع أؤكد دوماً على القراءة النافعة والقُرَّاء الحقيقيين؛ لأنَّ الحديث عن قُرَّاء مواقع التواصل وقُرَّاء الصحف اليومية بما فيها من أخبار ومقالات، وقُرَّاء المجلات والتحقيقات، بل حتى قُرَّاء كثيرٍ مما يسمى روايةً أو خواطر أو شعرا، أقول: لأنَّ الحديث عن هذا النوع من القُرَّاء غير مقصودٍ في هذا السياق، وإدخالهم في هذه القضية بوصفهم قُرَّاء يؤدي إلى الخلط والتعمية، ويسهم في التوصل إلى نتائج غير دقيقة وبعيدة عن الحقيقة.
لقد تحدثتُ في مقالٍ سابقٍ عن الفقر الثقافي، وقلتُ حينها إنَّ الخواء المعرفي الذي تعاني منه كثيرٌ من العقول اليوم هو نتاج طبعي لغياب الوعي بأهمية القراءة، وعدم إدراك ما يمكن أن يؤديه الاطلاع والتزود من المؤلفات المفيدة والقيمة في مجالها، كما أنه نتاجٌ لقلة الإفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم الثرية في هذه الحياة، وعدم النظر في ثقافة الآخر ومحاولة الإفادة مما تحمله، يقول الكاتب والأديب الفرنسي (أندريه جيد): «ثق أنك عندما تأخذ كتابا وتقرؤه وتعيده إلى الرف مرة أخرى فإنك لن تكون نفس الشخص قبل قراءته».
لفتني حين زرتُ الشارقة الإماراتية الأسبوع الماضي لوحةٌ دعائيةٌ ضخمةٌ في أحد الشوارع، تعلن عن مشروع بعنوان (مكتبة لكل بيت)، وحين بحثتُ عن تفاصيل أكثر وجدتُ أنَّ إمارة الشارقة نجحتْ في تحقيق إنجازٍ هو الأول من نوعه عالمياً، مع إعلانها الانتهاء مؤخراً من توفير مكتبةٍ منزليةٍ لـ 42,366 بيتاً إماراتياً في الإمارة، تتكون كل واحدةٍ منها من 50 كتاباً، ليصل إجمالي عدد الكتب التي تضمُّها هذه المكتبات إلى 2,118,300 كتاب، في خطوة تعكس اهتمامها بالاستثمار في البناء المعرفي للإنسان.
وعرفتُ أيضاً أنَّ هذا المشروع من أهم المشاريع التي أطلقتها (ثقافة بلا حدود)، تلك المبادرة الثقافية التي تتخذ من إمارة الشارقة مقراً لهاً، وتسعى من خلالها إلى تعميق علاقة الفرد بالكتاب والقراءة بشكل عام، ونشر ثقافة القراءة وتعزيزها في كل بيت إماراتي، تماشياً مع خطط التنمية والتطوير التي تنتهجها الإمارة، والتي تستند في أساسها على الإنسان، وتهدف إلى بناء مستقبل أفضل له.
أما فكرة المشروع فهي إنشاء مكتبة في كل بيت، وذلك من خلال تزويد الأسر الإماراتية بمجموعةٍ قيمةٍ ومختارةٍ من الكتب باللغة العربية، التي تناقش مختلف الموضوعات الأدبية والعلمية والدينية والثقافية وكتب الأطفال وغيرها، وذلك بواقع 50 كتاباً لكل أسرة، لتشكل نواة لمكتبة منزلية، وتحقق في الوقت ذاته رؤية المشروع الساعية للوصول إلى إمارة مثقفة وجيل قارئ، عبر تحويل القراءة إلى فعل يومي من أجل استكشاف متعة المعرفة، وتنمية القدرات الشخصية لجميع أفراد الأسرة الإماراتية.
فأين نحن من مثل هذه المشاريع؟ أين مؤسساتنا الثقافية من تبني مشروع كهذا؟ ولماذا لا تدرس مثل هذه الأفكار لتناسب مدننا، ومن ثم تدعم وتنفذ؟ إنَّ الادعاء بأننا أمة تقرأ، والاستدلال بالأعداد الكبيرة التي تزور معرض الكتاب سنويا، والاحتفاء بوفرة الإنتاج الثقافي، كل هذه الأمور لن تغير من الواقع شيئا، الواقع الذي يقول بأننا ما زلنا متخلفين في القراءة، غير مدركين لأهميتها في الارتقاء بالحضارة والفكر، وغير مستوعبين لضرورة هذا الفعل الثقافي الذي يسهم في ازدهار المجتمع وتطوره وتحضُّره.