يرى بعض الناس مبالغة في هذه المقالات, وأن الخطأ لا يعدو زلة لسان هنا وهناك, لا يستحق معها عقد سلسلة مقالات في نقد هذا البرنامج وصاحبه. وهذا قول لا يصمد كثيرًا ولا قليلاً. ولو تدبّرَ ما كتبنا وما سنكتبه لعلم أن الأمرَ لا يقف على غلط بسيط جاء عفوًا, بل أخطاء تنم عن ضعف إعداد للبرنامج, وجرّ هذا إلى الجناية على اللغة العربية وعلومها, وقدم للمشاهد مادة مغلوطة غير صحيحة. ونحن أحرص الناس على دفع ما يمكن دفعه من الأغلاط, ولكن الحزام جاوز الطُّبْيَين كما قالت العرب, ولم تعد الأخطاء بسيطة ساذجة كما يرى البعض.
وإلا فهل كسر الأبيات ونسبتها إلى غير قائليها وشرحها شرحًا لم يرد في كلام العرب من الأخطاء البسيطة؟
نسبة بعض الشعر لغير أهله
نسب الدكتور عيد اليحيى بعض الشعر لغير أهله في غير موضع. والشعر خاص بالإنسان لائط به، لا يصح أن ينسب إلى غيره. وكان على الدكتور أن يتأنى ويتحرّى الدقة في هذا.
ففي الحلقة الأولى د.5.40 أنشد بيتًا ونسبه لجرير هاجيًا فيه الفرزدق:
إني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكَرْ
وهذا الشعر ليس لجرير, وإنما لأبي النجم العجلي من قصيدته:
تذكَّر القلب وجهلاً ما ذكرْ
مشْيَ العذارى الشُّعث يَنفُضن العُذَرْ
وهو في ديوانه ص166. وقد استوفينا الحديث عن هذا الشعر في المقالة الأولى من سلسلة مقالاتنا هذه.
2 - وفي الحلقة الثالثة أنشد عيد اليحيى هذه الأبيات ونسبها لمجنون ليلى:
ولما تَلاقينا عَلى سفحِ رامَةٍ
وجدتُ بِنان العامريَّة أحمرا
فقلت خضبتِ الكف يوم فراقِنا
فقالت وحق الله ذلِك ما جرى
ولكنَّني لما أَضر بي النوى
بكيتُ دماً حتّى بللتُ به الثَرى
مسحتُ بأَطراف البَنان مَدامعي
فَعُدنا خضاباً في الأَكُف كَما تَرى
ونسب الدكتور هذه الأبيات لمجنون ليلى, ورأى أن رامة مما يمر به حاج البصرة, وقال: إن قيسا خرج في قافلة مع أبناء عمه فربما التقى بليلى هنا, ومن ثم رأى بنان ليلى مخضبًا فقال لها لماذا؟ فقالت له ما قالت.
وإني لأكره أن أفسد على الدكتور هذه الحبكة الدرامية، ولكن الحق أحب إلينا. والصواب أن هذه الأبيات ليست لمجنون ليلى, ولم يقل الأبيات لمّا رأى بنان العامري قد خُضِّب وهما على سفح رامة! بل هي لرجل جاء بعد المجنون بألف سنة من أهل الشام، رجل يقال له: أمين الجندي, وهو من مشاهير زمانه في القرن الحادي عشر, وتنسب لغيره كالقيرواني والرقاشي الصوفي, ولكن المحقق أنها ليست من شعر المجنون, ولكن ذلك ما جرى من أمر اليحيى والمجنون!
3 - في الحلقة الثانية والثلاثين أنشد أبياتًا للحطيئة:
وطاوي ثلاثٍ عاصب البطن مرمل
بتيهاء لم يعرف بِها ساكنٌ رَسما
أَخي جفوة فيه من الإِنس وحشةٌ
يَرى البُؤس فيها من شَراسته نُعمى
وأفردَ في شِعب عَجُوزا إزاءها
ثَلاثَةُ أَشباحٍ تخالهُم بهْما
رأى شبحًا وَسط الظلام فراعهُ
فلمّا بدا ضَيفاً تسور واهتما
إلى آخر هذه القصيدة.
والقصيدة على التحقيق لا تصح نسبتها إلى الحطيئة لأمور عدّة، أبان عنها الدكتور فواز اللعبون في مقالة منشورة بعنوان (قصيدة «وطاوي ثلاث...» وصحة نسبتها إلى الحطيئة) في صحيفة الجزيرة عدد 14896. حيث خلص د. اللعبون إلى أنها مصنوعة منتحلة، لا تصح نسبتها إلى الحطيئة؛ فهي لم ترد في رواية ابن السكيت الذي صنع ديوانه, ولم ترد كذلك في رواية السكري. هذا من جهة السند. ثم نظر إلى القصيدة متنًا وتبيّن له ما يثبت وضعها. على أن بعض المتأخرين نسبها إلى الحطيئة، فلعل الدكتور عيد تبعهم في هذا.
متفرقات:
1 - في الحلقة السادسة وفي حديثه عن جبل قَطَن قال الدكتور عيد اليحيى: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل سلمة بن الأكوع إلى ملاقاة طليحة بن خويلد. وهذا غلط؛ فالذي أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أبوسلمة عبدالله بن عبد الأسد, ولما قدم المدينة انتقض عليه جرح من غزوة أحد فمات على إثره. والخبر في كتب المغازي.
2 - في الحلقة التاسعة عشرة د.13.35 تحدث اليحيى عن نبات الحرمل حيث يقول: إن نبات الحرمل غير معروف في جميع مناطق المملكة! ولم يُعرف إلا في السنين الأخيرة بسبب استيراد الحبوب الغذائية كالشعير وغيره. انتهى.
وقد استوقفني حديثه هذا لغرابته, وما زلت عند رأيي أن الدكتور عيد اليحيى - أصلحه الله - يتعجل ولا يتلبث ولا يبحث, بل يلقي بالكلمة على عواهنها, وإلا فما الذي يجعله يجزم بمثل هذا جزمًا قاطعًا؟
ولو تكلف الدكتور عيد قليلًا وتناول كتاب (لسان العرب)، ونظر في مادة (حرمل)، لرأى بيانًا شافيًا كافيًا عن الحرمل. جاء في اللسان: الحَرْمَل نوعان: نوع ورقه كورق الخِلاف ونَوْره كنوْر الياسمين يُطَيَّب به السمسم وحبّه في سِنَفة كسِنَفة العِشْرِق، ونوع سنَفته طِوال مُدَوَّرة. قال: والحَرْمَل لا يأْكله شيء إِلا المِعْزى.
فهو نبات معروف مشهور قديمًا وحديثًا, ولا وجه لقوله إنه أتى مع استيراد الحبوب الغذائية. وأما ذكره أن نبات الحرمل سام، يقتل جميع النباتات التي حوله، فهذا محوج إلى مختص يفصل في هذه القضية؛ لأن الدكتور عيد إذا تفرَّد لا يقبل تفرده!
وقد ورد الحرمل في شعر العرب, ومن ذلك قول طرفة بن العبد يهجو بني المنذر بن عمرو (ديوانه: 123):
هم حرْملٌ أعيا على كُلِّ آكلٍ
مُبيرًا ولو أمسى سوامهم دَثْرا
ومع كل هذا الغلط يأتي المتحدث في البرنامج ليصف الدكتور عيد اليحيى بالمتخصص في علم النبات!
جُر يا غراب وأفسد لن ترى أحدًا
إلا مسيئًا وأي الخلق لم يجر؟!
2 - في الحلقة السادسة والعشرين تحدث د. عيد اليحيى عن الشاعر مالك الريب بحديث عجيب غريب يقول: جاء سعيد بن عثمان بن عفان من المدينة إلى عنيزة خصيصًا لمقابلة مالك بن الريب ليكفه عما يفعله من قطع للطريق, ونهب للقوافل.
وفي هذا غلط وخلط عجيب؛ فسعيد لم يذهب إلى عنيزة والغضا ليقابل مالك بن الريب, وليكفه عن النهب والسرقة. وخلاصة الخبر أن مالك بن الريب كان يهجم على القوافل حتى قبض عليه - كما يقول ابن قتيبة - وبعد أن خرج من حبسه شدّ المطي إلى خراسان، ولقي ابن عفان هناك.
أما الأصفهاني في الأغاني فروايته أفسح من خبر ابن قتيبة؛ إذ ينص على أنه تخلص ممن قبض عليه وهرب إلى البحرين، ثم منها إلى فارس، ولزمها حتى لقيه سعيدُ بن عثمان فطلب منه مفارقة ما هو عليه, فتبعه مالك بن الريب وجاهد معه في خراسان.
واختلفت الأقوال في سبب قدومه خراسان إلا أنها تتفق في مكان التقاء سعيد بمالك, وذلك في خراسان, فمن أين جاءت حكاية الغضا وعنيزة؟ الله وحده أعلم! والحديث عن قصيدة مالك والغلط فيها وكسر أبياتها استوفيناه في مقالة سابقة.
وختامًا، وبعد كل هذا, هل يعذر الدكتور عيد اليحيى في هذا؟ كان يمكن أن يعذر وأن يُتلمس له من أوجه القول والتوجيه ما يحسن به لو كان الخطأ عفوًا, ولكن ما رأيناه في البرنامج يتجاوز كل ذلك إلى إساءة متعمدة، قوامها العجلة والاستهانة بالعلم. ولو دار في خلد الدكتور عيد اليحيى احترام العلم, وتشريفه, لأخذ للأمر أهبته, ولرجع إلى أهل الاختصاص في كل شأن طرقه في برنامجه, ولا يعيبه هذا. أو على أقل الأحوال لو عاد إلى الكتب ونظر فيها وتلمس الصواب فإنه يقع فيه إن شاء الله. ولم يحصل هذا. والله المستعان.
- عبدالله المقبل