د. حمزة السالم
الحياة والموت من أعظم أسرار الوجود قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}.. ولا يستمر الشيء سراً إلا لكونه -غالباً- أنه لا منطق له في تصور الناس الدنيوي.. ويشهد على غياب المنطق في مراحل حياة الناس، ما يُلاحظ من حرص الكبير على الدنيا وتوخيه الحذر من الموت، وزهد الصغير في الدنيا وتهوره في المهالك. وقد أكد المتنبي هذه الحقيقة في تساؤله عن منطق الحياة فقال "تُسوّد الشمس منّا بيض أوجهنا... ولا تسوّد بيض العذر واللمم، وكان حالهما في الحكم واحدة.... لو احتكمنا من الدنيا إلى حكم".
تساءلت لماذا نبكي على الشباب في الأربعين؟ أو ليست الأربعون هي تاج العمر؟ فأجابتني نفسي: ذاك لأن تاج العمر لا يُجدد له.. ففي الشباب تُسلى النفس بالأماني فتعيش مسرورة تقتات في سرورها على بهجة المستقبل المأمول "أعلل النفس بالآمال ارقبها.. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل".
فإذا ما جاءت الأربعون وانتصفت، ذهبت الأماني مع انتصاف العمر، فهما ضدان لا يجتمعان: أحلام الشباب وانقضاء الأربعين. فالبكاء حقيقة إذاً على انقطاع الأمل لا على ذهاب الشباب "والمرء يأمل والحياة شهية... والشيب أوقر والشبيبة أنزق". ولولا الأمل لما عرفنا العشق والعشاق "وَما صَبابَةُ مُشتاقٍ عَلى أَمَلٍ... مِنَ اللِقاءِ كَمُشتاقٍ بِلا أَمَلِ". فمتى ضاع الأمل، ارتحل العمر ينتظر الأجل.
كنا في الصبا نستعيب الشباب ونستعجل المشيب والتزين بالبياض، يحكي حالنا قولهم "مُنىً كُنَّ لي أَنَّ البَياضَ خِضابُ.. فَيَخفى بِتَبيِيضِ القُرونِ شَبابٌ". وفي الرجولة نُسلي النفس ونعللها بالأشواق، ونحذرها فوت العمر فنحن أبدا نترنم "ما دُمتَ مِن أَرَبِ الحِسانِ فَإِنَّما... رَوقُ الشَبابِ عَلَيكَ ظِلٌّ زائِلُ ، للَّهوِ آوِنَةٌ تَمُرُّ كَأَنَّها... قُبَلٌ يُزَوَّدُها حَبيبٌ راحِلُ".
فإذا أتى المشيب دافعناه معاندين بدعوى "وَفي الجِسمِ نَفسٌ لا تَشيبُ بِشَيبِهِ... وَلَو أَنَّ ما في الوَجهِ مِنهُ حِرابُ". حتى إذا ما حضرت الشيخوخة ورأينا الشباب من الأحفاد وأقرانهم استبشرنا بطلعتهم، ففجرت فينا دماء الشباب "وَقَد أَراني الشَبابُ الروحَ في بَدَني... وَقَد أَراني المَشيبُ الروحَ في بَدَلي".
وفي الكهولة، وعندما يختفي الأمل وتنقطع رغبات الدنيا نتصبر فنتثمل بقول "أبني أبينا نحن أهل منازل... أبدا غراب البين فيها ينعق، نبكي على الدنيا وما من معشر.... جمعتهم الدنيا فلم يتفرّقوا، والموت آت والنفوس نفائس... والمستغرّ بما لديه الأحمق".
التجاعيد تحكي أثر الزمان في وجه الشيخ الكبير.. وأعمق الحزن حزن بلا دمع، وهو الذي تحكيه النظرة الغامضة العميقة التي لا تكاد تخلو منها عينا شيخ كبير صامت، فذاك تعبير صامت عن ألم فقدان الأحبة، " إَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا... أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا".
ما كان للشباب أن يفضل المشيب، لولا المسكوت عنه الذي أفصح عنه هذان البيتان "رأيْنَ الغواني الشيبَ لاحَ بعارضي... فأعْرَضْنَ عني بالخدودِ النَّواضرِ، وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعنني... سعَيْن فَرَقَّعْن الكُوى بالمحاجِرِ". (فرقعن: من الرقعة وترقيع الثوب الممزق، الكوى: جمع كوة وهي الفتحات في الحيطان، المحاجر: ما حول العيون).