في أواخر سنة 2007 اختير د. راندي باوتش ذو 47 عاما أستاذ علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون، لتقديم محاضرة اعتادت الجامعة على تنظيم أمثالها عندما يقترب تقاعد أحد الدكاترة ليقدم خلاصة خبراته للطلاب، ولم يكن اختيار د. باوتش لتلك المحاضرة التي تُسمى (المحاضرة الأخيرة) بسبب تقاعده أو انتقاله من الجامعة، إنما بسب أن الأطباء أكدوا بأنه أجله قد اقترب! وقد شاهدت تلك المحاضرة - والتي بدا فيها راندي رابط الجاش لطيف الروح واثقاً من النفس قوي القلب، فأي عيون يجمل بها أن تستبقي دمعة واحدة فلا تريقها مع هذا الخبر المؤلم! وأي قلب يسكن بين جنبي صاحبه فلا يطير حزناً وجزعاً بعد تلك المصيبة!، وكان مدار المحاضرة هي الإجابة على سؤال: ما الذي ستخبره للعالم إذا علمت أن تلك وصيتك الأخيرة؟ وقد اقتنصت من تلك المحاضرة جملة من الفوائد والدروس التي تحدث عنها باوتش أنقلها لك بتصرف:
1 - يذكر باوتش موقفاً جميلاً أهديه لكل أب يقول باوتش: ركب ذات يوم معي أختي وأبناؤها في سيارتي الفاخرة التي اشتريتها حديثاً، ولم تكف أختي طوال سيرنا عن تقديم النصيحة تلو النصيحة لأبنائها أن يحافظوا على سيارة خالهم، يقول باوتش: وفجأة توقفتُ ثم قمت بسكب مشروب غازي على مراتب السيارة وسط ذهول الجميع! وقد قصدت من تلك الحركة التنبيه على أنّ كثرة التعليمات والتوجيهات تحد من قدرة الصغار وإبداعاتهم وتهمش شخصياتهم، مؤكداً على مبدأ خطير في التربية مفاده: أن الأشخاص أهم من الأشياء.
2 - ثم حكى لهم قصة امرأة تكاثرت عليها الديون بعد أن تورّطت في العديد من القروض مما سبب لها متاعب نفسية وضغوطاً داخلية وحتى تخرج من أزمتها النفسية حجزت عند معالج (يوغا) استنزف مالها وجهدها ووقتها، وشدد د. باوتش على ضرورة علاج المرض (القرض) بدل من الانشغال بالعرض (الضغوط)، وهنا أوجه رسالة للذين ينفقون أموالهم عند الكهنة والسحرة للعطف أو الصرف، أن يتقوا ربهم ويختاروا الطرق التي شرعها الله وهي أسلم وأسهل.
3 - ثم وجّه د. باوتش رسالة لمن أدمنوا الشكاية وكانت بضاعتهم لوم الزمان ولعن الظروف بقوله: لاعب الورق إذا لم يحظ بأوراق لعب جيدة فلا تراه يبكي ولا ينوح ولن ينسحب، وكل ما عليه هو اللعب بمهارة أكبر! وكذلك في لعبة الحياة إذا ابتليت بزوجة سيئة أو مرض مستعص أو ابن معاق أو مدير متسلّط، فكل ما عليك هو التعامل معهم بكفاءة أعلى!
4 - كما نبّه د. باوتش على أهمية وجود من يؤمن بنا في الحياة ويراهن على نجاحاتنا، فحكى قصته مع أحد الطلاب المميزين الذي واجهته ظروف صعبة، فتكرر رسوبه في مادة الرياضيات، مما حدا بمجلس الكلية أن يقرر طرده لولا تدخُّل باوتش وشفاعته في الطالب، وقد ربط مجلس الكلية بقاء باوتش في الكلية بنجاح الطالب في فرصته الأخيرة! مضحياً بمستقبله، ولم يخيب الطالب أمله ونجح بتفوق، فهل عساك تتعامل مع ابنك أيها الأب عندما يخفق ويتعثّر بنفس الروح التي تعامل بها باوتش مع تلميذه؟!
5 - وشدد باوتش في المحاضرة على أهمية الكلمة وأنها تبني وتهدم، واسترجع موقفاً له أيام دراسته الجامعية عندما اشتكى لوالدته صعوبة الدراسة ومعاناته الشديدة منها، وقال: إن والدته صعقته برد عجيب تعلّم معه أحد أهم الدروس في حياته عندما قالت له: في مثل عمرك كان والدك في الجبهة الأمامية يقاتل الألمان ببسالة! يقول باوتش: تلك كلمة غيرت حياتي وأيقظت كوامني الداخلية وتعلّمت من تلك الجملة فن التهوين، فأي حال مهما كانت صعوبته لن يكون بصعوبة مقارعة الجيوش!
6 - وتحدث باوتش عن نصيحة جميلة قدمت له من جون سنودي أحد قيادي شركة ديزني حيث نصحه بالتمهل على الآخرين والصبر عليهم بما فيه الكفاية، لأنك سترى منهم ما يذهلك ويثير إعجابك.
7 - ومن الدروس العظيمة في محاضرة باوتش ما ذكره عندما عُيّن كأستاذ جامعي وهو في سن صغيرة مما أثار استغراب زملائه الأساتذة، مما دفعهم لسؤاله عن الكيفية التي استطاع من خلالها اختصار المسافات، وكان جوابه عميقاً رائعاً لم يتجاوز الكلمتين وهي في كلمة (أعمل بجد)، والواقع يشهد بأنه لا يستوي من أنفقَ دهرهُ علماً وبحثاً ونظراً، وآخرُ أنفقهُ سهراً وضياعاً ولعباً!
8 - وأعطى د. باوتش درساً في مهارة الاعتذار وذكر أن الاعتذار المناسب لابد أن يحوي على ثلاثة شروط:
اعتراف بالخطأ وشعور بالذنب وسؤال من اعتديت عليه: ماذا يمكن أن أفعل لك؟
9 - وفي ملحظ خطير يقول د. باوتش: عندما ترتكب خطأ ويعزف من حولك عن توجيهك فاعلم أنك أصبحت خارج دائرة اهتمامهم لذا عندما ترى نفسك ترتكب خطأ في مكان لا يلومك فيه أحد، فاعلم أنك لست في المكان الصحيح! فقد تستثقل من يوجه النقد لك، ولكن اعلم أن من يفعل هذا هو شخص يحبك ويهتم بك.
توفي باوتش بعد المحاضرة بعد ثلاثة شهور ولكنه ورّث علماً وبصمات بيضاء وآثار مشرقة وما أحوجنا إلى الاستفادة والتعلم من أمثاله فالحكمة ضالتنا والعلم والفهم بغيتنا.