ياسر حجازي
(أ)
ماذا تعني دعوة العودة إلى الماضي؟ وما معنى الحنين إلى مرحلة في التاريخ يتوجْدَنُ فيها الإنسان، على أنّها نهاية التاريخ أو بروفا نهايته، التي لا بدّ أن تعود، وأنّ الأضداد والجدليات ماضية إلى زوال؟ هل نحن نحجر على الوعي بحركة التاريخ ونرسم له خطواته سلفاً بهذا التصور؟ أليست هذه العودة ضدّ الزمن، ضدّ طبيعة التاريخ بصفته حركة الإنسان الحرّ، الموجدُ للتاريخ بالوعي وليس بفرادة الفعل، لأنه جزء من الكون وليس مركزه كما يتصوّر؟. هل يعنينا التاريخ كحركة علاقات الإنسان الذاتية والموضوعية مع نفسه والعالم، ومحاولاته لقراءتها وفهمها على ضوء اكتشاف التاريخ وآثاره وتدويناته وشواهده؟
(ب)
فيزياءً، كُلّ شيء متحرّكٌ وخاضعٌ لقوانين الحركة والزمن، بحيث إنّ ما نسمّيه (الآن) ليس موجوداً إلاّ تابعاً لتصوّراتنا وإسقاطاتنا، ومهما توهمنا ثقافتنا بالثبات فإنّه يبقى مفهوماً سائلا زمنيّاً، فإنّ تصوّراتنا عن (كان، الآن، يكون) لا تفهم بمعزل خارج المعنى الثقافي والتاريخيّ للفواصل الزمنيّة التي نضعها بملئ إرادتنا، وأيّ تصوراتنا أخرى هي إثبات لعدم نهائيّة تصوراتنا، التي هي ليست فواصل بحدّ ذاتها دون المعنى التاريخيّ التأويلي لها، بصفة (الآن) مفهوماً حدّيّاً (ثقافيّاً) (وليس فيزيائيّا زمنيّاً) أراد مساندة المعنى الثقافي لقراءة التاريخ.
أن تفهم مفهوم (الآن) بتصوّرات ثابتة وجامدة، فذلك يورّطك بمفهوم معاندة التاريخ للحركة، وتعطيل الحياة عند نقطة ثابتة، لم تكن مستقبلاً، ولن تكون ماضياً، وعلى تصوّرك يكون الماضي صورة نهائية/ إن أوجدته (الآن) أو حافظت على الصورة المنقولة من الماضي، فلا مجال لتوسيع تلك الصورة وتأويلها واكتشافات رسومات أخرى قبلها أو بعدها أو حولها في منطق ثابت معزول عن حركة التاريخ؛ ولا يبدو التاريخ كعلاقات وصراعات طبيعية أوجدتها أوهام وعي الإنسان في الحرية والملكيّة والقوة والقانون وغيرها، بل يبدو الصراع دخيلاً ويمكن نهايته على هذا التصوّر الذي يملك الصورة النهائيّة؛ شيء من هذا المأزق في تثبيت الزمن والتاريخ نغرق فيها كلّ يوم، وفي كلّ دعوة للعودة إلى الماضي، والاحتكام إلى التاريخ، على أنّه النموذج والصورة الإنسانيّة القادرة على إنهاء الصراع، والوصول بالإنسان إلى مفاهيم ثقافية بوحدة كاملة لا يتخلّلها اعتراض أو اختلاف، الوصول إلى يوتيوبيا أرضيّة وفق صورة ثابتة تخصّ ثقافة ما، ولا تتّفق معها ثقافات أخرى.
(ج)
تبدو دول شرق المتوسّط واقعة تحت تأثير يميل إلى تقديس التاريخ وجعله مسيطراً على الحاضر (المدنّس)، ولكن، أيّ تاريخ هذا الذي يستلبنا ويؤثر في حاضرنا إلى درجة طمسه؟ هل هو تاريخ ثابت أم متحرّك؟ نهائيّ التصوّر أم قابلا للتأويل والتعدّد.
أن تقدّم مفهوم التاريخ على أنّه نهائيٌّ وثابتٌ، فأنت تنزع الحركة والزمن أيضاً، وفي هذا النزع استسلامٌ لمرحلة تاريخيّة يضعها هذا المؤثّر أو ذاك، مرحلة تخصّ الإنسان العربي، وقد تتعارض مع شعوب أخرى أو تمثّل الصورة المغايرة لهم أو لا تعنيها تماماً؛ وأن تقدّم تلك (المرحلة) على أنّها شيءٌ منفصلٌ عن الإنسان وتطوّره وتقلباته، وليس من إمكانيّة لإنهاء حالة الصراع غير تمثيل ذاك التاريخ، إعادة نسخه وتكراره ومحاكاته فأنت تعيش خارج الزمن ولا تتقارب مع العالم، ولا يكون الحاضر/الآن حيّاً وقادراً على الحياة إلاّ عبر الاستعانة التاريخيّة بالنموذج الثابت، كأنّه قانونٌ فيزيائيٌ، لكنّ ثبات القانون في مصلحة الحركة والزمن، وليس في مصلحة ثبات معنى ثقافي واستنساخه على الشعوب الأخرى، أو ضمانة بقائه.
هكذا لا يكون الحاضر امتداداً طبيعيّاً لمسارات التاريخ وتعريجاته وحركاته بين الهبوط والصعود، بل يكون جزء من التاريخ حيّاً ومهيمناً وليس انعكاساً لأحداث (الحاضر/الحي)، وفي المقابل يكون الحاضر متماهياً ومُلتبساً؛ وبالتالي لا يكون جمودنا تأخّراً عن حركة التاريخ الإنساني المعاصر، بل تأخّراً وعائقاً لإنسان اليوم، وذلك نتيجة لاستحضار تاريخنا الخاص لمزاحمة ومنافسة التاريخ الحيّ/الآن، في صورة مشوّهة مفرّغة من مضامينها السابقة، تتبرّأ منها البيئة الحاضنة لها قبل غيرها، ولا تتبرّأ من الفهم الجامد للتاريخ وثباته الذي أنتج هذا العائق الحضاري في نماذج الدويلات التي أسّستها طالبان وداعش ودونهما من حركات دينيّة وشموليّة مسلّحة.
وشيءٌ من هذا يفسّر لماذا يدخل التاريخُ طرفاً مستقلاً في صراعات الشرق الأوسط وليس نتيجة صراع، ولماذ بائت بالفشل كلّ محاولات التقارب بين التاريخ الثابت والتاريخ المتحرّك. هكذا لا يكون الصراع على الحاضر، بل يتمحور الصراع على الانتصار لنموذج معيّن من التاريخ لأجل المطالبة بإعادته؛ وتنشئ حالة الصراع على تفسير التاريخ غير قادر على الدخول في الحضارة: من يملك التاريخ النهائي الصحيح/ من يقدر على فرضه؟
( د)
يأخذنا تفكيك التاريخ والوقوف عنده إلى تصوّرين متضادّين: تصوّر يخصّ العربي المتأثر بالعقل الديني وأسئلة النهايات والميل لاعتبار التاريخ أنه حدثٌ مكتملٌ ونهائيّ، وتصوّر يخصّ الغربيّ المتأثّر بالعقل المادي الذي له تراكماته الماديّة والإنسانيّة حتى انتصاره في أوج الحداثة الأوروبيّة؛ واعتبار التاريخ حركة إنسانيّة وكونيّة، وتنزع عن الإنسان المركز الفوقاني الذي كان ينطلق منه في عقدة البحث عن نموذج ثابت للسلوك والفكر الإنساني، وفق مفهوم النموذج الأمثل الذي يستوجب التاريخ إعادته.
(هـ)
هل من سبيل للتوفيق بين النهاية واللانهاية؟ بين الحركة والسكون؟ ربما، هناك نقطة التقاء في مكان وزمان ما عند نقطة التقاء المتحرّك بالساكن، والنهائي باللانهائي؟ ولكن المفارقة أنّ هذا الالتقاء الومضي الفارغ من محتوى المضمون والاستمرار، هو نقطة الافتراق، حيث إنهما لا يلتقيان إلاّ ليفترقا.
(د)
ربّما يلحقُ المتأخّر بالدخول في الحضارة المعاصرة إذا كان يمضي باتّجاهها على نيّة الدخول فيها معترفاً بشروطها وقوانينها، وأن يكون تأخّره بسبب عوائق ماديّة وليست ثقافيّة دينيّة، أمّا الذي يمضي باتجاه متنافر ويستحضر مرحلة من التاريخ عبر إعادة تجسيدها ليزاحم بها الحضارة، فلا يمكن له أن يلحق بها أو يكون على هوامشها.