وما كان قيس هلْكه هلك واحد
ولكنه.. بنيان قوم تهدما
غادر دنيانا الشيخ الوالد محمد بن صالح السحيباني..
هكذا تصير الحال عندما تقبض مهَج العلم الرباني والجهاد الفكري، يستأثر الله بهم فتستحيل كل المعابر ضيقة، والمنابر باكية، والأحشاء محترقة، والعيون بدموعها غرقة، لا قلبَ إلا قد تبين صدعه، ولا عينَ إلا وهي ترشح بالدمع حزنا على رحيل أهل الفضل، وفراق أهل العلم..
كان يردد رحمه الله: «الله الله يا عبدالله، كثّر من شهودك على الأرض» وهاهم شهود الله في أرضه يتدافعون بجمع الغفير ليشيع هذه الجنازة المهيبة، كلهم كان يهتف بقلب صادق، ولسان لاهج بالدعاء، ودمع سخين أغرق عيونا طالما كانت تتشغف منبر الجمعة ليسقي قلوبها إيمانا ويقينا..
اليوم تتسابق لتحثو حبات الرمل الأخيرة على قبره وتودعه الوداع الأخير..
وكانت في حياتك لي عظات
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
غادر والدنا الشيخ ليخلّف رحيله كمداً جلياً على الأرواح، وكدماً كبيراً في النفوس، وجرحاً غائراً في قلوب أهل الخير من الأخيار الأغيار على هذا الدين..
رحل ليفتق ثلماً قصيّاً وخدشاً قوياً، لا يرتقه سوى الإيمان الصادق بقضاء الله في عباده، واليقين بزوال هذه الدنيا، فالله جل في علاه يبقي ما كان البقاء أعمر للمكان وأصلح، ويتوفى ما كانت الوفاة أوفى للزمان وأفلح؛ لذا قُبض الأنبياء والمرسلون..
ومتى نزل البلاء الجسيم فقد لزم الرضاء والتسليم، ولا تسخّط لقدر الله وهو عدل، ولا تكرّه لقضائه وهو فضل..
نعم هذه الدنيا وضيعة حقيرة، ترتجع أعز ما تعطي، وتنتزع أحب ما تولي..
أيامها مراحل، والثاوي بها راحل، وإن أشد مصائبها لذعا، وأعظمها وقعا، فراق الأحبة وفقد العلماء..
تجري على رسلها الدنيا ويتبعها
رأيٌ بتعليل مجراها.. ومعتقد
أعيا الفلاسفة الأحرار جهلهم
ماذا يخبي لهم في دفتيه غدُ
يوم حزين على البدائع وأهلها، قد شرقت أجفانها بالدموع،
تبكي لرحيل علم من أعلامها ورجل من رجالاتها، فقد كان للفضيلة علماً ممتداً، ولأهل الزيغ ركنا مشتداً...
أقام حق الله في عباده قضاءً، ونشر ضياء اليقين في منبره خطابة، وكتب سطورًا ناصعة من العلم والأمانة والزهد ونشر الخير وهداية الناس..
ثلاثون عاماً بل تزيد من الجهاد الفكري، والكفاح الدعوي، والنضال الأخلاقي..
ثلاثون عامرة بالدعوة، غامرة بالإرشاد، مسكونة بالإخلاص، مأهولة بالبذل والعطاء..
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضة
غداة ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ
ثوى في الثرى مَنْ كان يحيا به الثرى
ويغمرُ صرفَ الدهرِ نائلُهُ الغمرُ
عليك سلامُ الله وقفا فإنني
رأيتُ الكريمَ الحُرَّ ليس له عمرُ
رحم الله شيخنا، وجعل ما نقل إليه خيراً مما نقل عنه، وكتب ما أصابه تمحيصاً وتكفيراً، ورفع درجته في عليين، وقدس ثراه، وأكرم مثواه..
دمعة:
ما أعظمك مفقوداً، وأكرمك ملحوداً!
- إبراهيم بن حمد المقبل