إبراهيم عبدالله العمار
حصل شيء غريب في تاريخ مصر القديمة: جاء السودانيون.
إذا قرأتَ تسلسل السلالات الحاكمة لمصر رأيت خطاً متصلاً، عائلة وراء عائلة فرعونية يحكمون هذه الدولة العظيمة، يقهرون الأعداء ويصنعون الحضارة ويتركون لنا آثاراً باهرة. قوتهم العسكرية أخافت وأذلت كل من حولهم، بما فيهم الجار الجنوبي: الأمة الكوشية (مكان السودان اليوم). لم ينظر المصريون للكوشيين (السودانيين) إلا أنهم أمة ضعيفة ذات موارد، فقهروهم وامتصوا مواردهم الطبيعية، بل أخذوا منهم العبيد بلا توقف ليبنوا أهرامهم وتماثيلهم وقصورهم، ولم يكن بوسع الكوشيين شيء أمام قوة المصريين.
إلى أن جاء وقت قبل ميلاد عيسى بسبع مئة سنة وانقلبت الآية: لأول مرة، استطاع الكوشيون أن يتصدوا للمصريين. جاء الملك الكوشي طهرقا، وهو رابع عائلته الحاكمة وفعل شيئاً لم يتخيل أحد أنه سيحدث: قهرَ مصر. كيف آلت مصر - هذه الدولة المهيبة - إلى ذلك؟ كانت قد ضعفت بسبب الحروب الأهلية والتفرّق، وتوافق هذا مع نهضة عسكرية للكوشيين أقامها الملك الجديد بيانخي، والذي وحّد الكوشيين ثم أرسل جيوشه للشمال وأخذت تقطف مدن مصر واحدة واحدة، وتوفي بيانخي فاستلم المُلك أحد أقاربه وأكمل الزحف على مصر، ثم ملك آخر، ثم أتى طهرقا وهو ابن بيانخي، ولما أتى طهرقا نهض بمملكة الكوش نهضة ضخمة، ففتح مصر ودانت له الدولتان، وحَكَم منطقة تمتد من السودان إلى الإسكندرية. حدث نادر جداً.
طهرقا شهير، حتى إنه ذكرته كتب اليهود والنصارى أنه ملك مصر الذي حمى بنى إسرائيل من جيوش الملك الآشوري سنحاريب، وذكره المؤرخ اليوناني سترابو (والذي عاصر ميلاد نبي الله عيسى) فقال أن طهرقا وصلت جيوشه إلى أوروبا بل وصلت إلى طرفها الغربي البعيد، إلى أعمدة هرقل في إسبانيا وهو اسم المنطقة المقابلة لمضيق جبل طارق.
كان طهرقا حكيماً، فلم يحكم المصريين بالحديد والنيران وإنما بالرفق والاتزان، بل إنه شيّد الأهرام السودانية لتُشابه المصرية، وبنى معابد مطابقة للفرعونية، وجعل خاصّته يكتبون بالهيروغليفية. هل هذه شهادة لتفوق وعظمة الحضارة المصرية القديمة؟ ربما. ولعل حنكة طهرقا جعلته يرى أن فرض الحضارة الكوشية على المصريين سيكون له أثر سيء، وأنهم سيتقبلون حُكم الكوشيين بلا ثورات مسلحة مستمرة لو رأوا أنهم يشبهونهم، ولهذا ترى اليوم في المتحف البريطاني تمثال سفينكس وهو اسم أي تمثال رأسه إنسان وجسده أسد كأبي الهول المعروف، غير أن أبا الهول هذا له منظر مختلف: إنه أسود الملامح. التقاطيع الأفريقية واضحة. إنه الملك طهرقا .. ينظر إليك من 3000 سنة .. يروي لك قصته الفريدة.