عبدالعزيز السماري
ازدادت وتيرة الظواهر البكائية خلال الأسابيع الماضية منذ برزت بعض وسائل الترفيه على السطح، ومنذ أعلنوا عن إعادة حفلات الغناء إلى أواسط المملكة، بينما لم تظهر تلك الحالة على الساحلين الغربي والشرقي بمختلف مدنه وبلدانه، برغم من تكرار حفلات الغناء والموسيقى فيها منذ قرون..
لماذا يشعر بعض سكان هذه الأرض بتأنيب الضمير كلما مرت ساعة فرح أو أسرعت لحظات بلا حزن، ولماذا يحاولون جهدهم لقتل ظواهر الفرح عند الآخرين، ولماذا يخافون منها، وهل نحن بالفعل معرضون للغضب الإلهي والعقوبة إذا خرجنا ولو قليلاً من حالة الحزن السائدة!.
كثيراً ما أتعجب لسرعة انخراط البعض في البكاء في مواعظهم، ولازلت أعتبرها ظاهرة لها علاقة بفلسفة الحياة عند سكان هذه الأرض، ولعل سنوات الحرمان التي توارثوها جيلا بعد جيل لها علاقة بالأمر، فقد كانت أشبه بالتقاليد المتوارثة والمتشبعة بالمشاعر السلبية تجاه الحياة بشكل عام..
وهو ما يجعل من قضية الحزن والكآبة ثقافة، لها علاقة بتاريخ غير مكتوب للإنسان في هذا الجزء من الجزيرة العربية، فالفرح هو نقيض الحزن، والمكتئب دائما ما يشعر بضيق في صدر كلما اقتربت منه لحظات من الفرح والسعادة، ويبرر ذلك بالخوف من زوال النعمة إن تمادى في إظهار مشاعر السعادة والسرور أمام الآخرين.
ما نسمعه هذه الأيام من نحيب وبكاء من بعض المحسوبين على الوعظ الديني لا يعني بالضرورة موقف الدين من ظواهر الفرح والسعادة، ولكن قد تعني أشياء أخرى لها علاقة بأنساق الحرمان وتقاليد الانغلاق في صحراء الجفاف.
يذكر الإمام الغزالي -في إحياء علوم الدين- «أن حديث النظر إلى رقص الأحباش والزنوج يدل على أن الغناء واللعب والرقص ليس مُحرّمًا، وأن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة: أترغبين أن تنظري إليهم وهم يلعبون -دليل على حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والأولاد»..
ظاهرة البكاء والنحيب قد تخفي حالة شديدة من الكآبة، وتستحق الدراسة في المجتمعات التي يطغى على أفراحها الحزن والدموع، وهي من الحالات العصية للعلاج، ولو تأملنا على سبيل المثال ظواهر الحزن في العراق، لربما أدركنا أنها أكبر من حالة دينية، وقد تعود لأسباب اجتماعية ونفسية، يستدعي من خلالها الإنسان كل أسباب الحزن في ثقافته من أجل يستمتع في أكبر وقت في البكاء واللطم.
قد يكون الأمر له علاقة بالحالة السياسية للمجتمع، فتاريخ العراق الاجتماعي والسياسي كان خلف تلك الحاجة الاجتماعية لمزيد من الحزن عبر تضخيم الرمزية الكربلائية، وإيصالها إلى درجة العقيدة التي تجعل من الحزن والبكاء ركن من أركانها وحالة احتفالية سنوية، يخرج فيها الناس جماعات لممارسة البكاء وضرب الصدور إلى حد الانهيار.
في حالتنا البكائية أعترف أنني أواجه صعوبة في فهم أبعادها، وهي حالة تختلط فيها مشاعر الكآبة والغضب، وقد تفسر بعض حالات العنف والانتحار، وكما تساءلت أعلاه، هل هي البيئة القاسية وسنوات الحرمان التي اختفى خلالها الفرح عن هذه المنطقة لقرون متوالية؟، وكان اكتشاف النفط بمثابة نفق الخروج من الكهف والعزلة الطويلة خلف الكثبان الرملية..
أم هو التفسير الديني المنطوي على نفسية مشبعة بالكآبة، ولهذا تم ربط اكتشاف النفط على أنه هبة إلهية لشعب ملتزم بذهنية التحريم، وأن الحرمان هو جوهر الدين، وإذا خرجوا منه، أو فرحوا أو غلبت على حياتهم مظاهر السرور، فإنهم مهددون بزوال نعمة النفط والأمن، بينما تعلمنا من تجارب الأمم أن الحضارة والأمن والنعمة والاستقرار لها علاقة بوعي الإنسان، وأن الله عز وجل منحه العقل ليفكر وينتج ويعي ويجعل له أثراً لا يزول في حياته الدنيا..