د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في كتاب أنس العاشق، الذي أعانني الله على تحقيقه قبل نحو خمس سنوات، وهو كتاب مغربي، لمؤلف مشهور عاش في القرن السابع الهجري، لم يذكر ذلك، لكن بعض الجمل الواردة فيه، دلالة على العصر الذي عاش المؤلف فيه، ومنها معاصرته لسارة الحلبية الشاعرة المتصوفة المتوفاة عام 700هـ، وذلك بقوله «ومن المتصوفات من أهل عصرنا سارة الحلبية». وكذلك معاصرته لعبدالعزيز الملزوزي، الشاعر المغربي المشهور المتوفى عام 697هـ، وذلك بقوله: «أخبرني أبو فارس عبدالعزيز الملزوزي». فهاتان قرينان تدلان دلالة قاطعة على أن المؤلف المجهول صاحب هذا الكتاب مغربي الأصل عاش في القرن السابع.
لقد راق لي ما ذكره المؤلف عن الهوى في مقدمة كتابه، ويبدو أنه قد خالج فؤاده، وبلغ منه فقاده، ولهذا كتب كتابه المذكور، وهو في بهجة وسرور، يطرب لشعر يرويه، ونثر يكتب عنه ويطريه، فجمع قصصًا وملحًا، وأشعل الزناد وقدح.
ولننتقل شيئًا من مقدمته حيث يقول: «الحمد لله الذي هون هوان الهوى، وحجب مثواه عن بصر المحب فلم يبصره حتى هوى، وأبعد به الرقاب المستبعدة عن الاستبعاد، وأذل بدليله النفوس التي هي للخضوع صعبة الانقياد، وجعل النظر حباله ومنشأه، والدمع فاصحة ومبينة، والنحول علامته ودليله والوجد مجال مكابده وخليله.
أحمده كما يجب لعزه وجلاله، وأشكره شكرًا استحق به المزيد من آلائه وأقصاله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المخصص بالمعجزات في أفعاله وأقواله، صلى الله عليه وعلى آله ما حنّ غريب إلى أهله، وصبا مشتاق إلى أحبابه وسلم كثيرًا.
أما بعد، فاني حملتني دواعي الظرف والصبا، ونسيم الجنوب من تلقاء المحبوب والصَّبا، إلى تصنيف كتاب في أخبار العشاق والظرفاء، ونوادر المحبين الأدباء، فألفت هذا المجموع وجعلته أبوابًا...إلى أن قال، وسميته «أنس العاشق ونزهة الشائق، ورياض المحب الوامق» وبه نستعين، وبه أسأل العصمة من الزلل في القول والعمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
هكذا زف لنا كتابه، وفتح لنا مكمن الهوى وبابه، فمن آنس في قلبه شيء من ذلك، فسيطيب له الولوج.
وأعجبني ما أورده صاحب الكتاب من قول الرازي حيث ذكر أن العشق داء قديم في بني آدم، وهو محبة إنسان لإِنسان، غير أن الإنسان يتعرض له فيعجبه أن يقع، وهو مغروز مخصوص بالشباب، وإن صاب مشيبًا فتلك فتنة.
والحقيقة أن ما ذكره الرازي فيه الشيء الكثير من الحقيقة، فإن من خامره الحب، وقد بلغ منه المشيب مبلغه، فإنه قد فتن، وربما لا يجد ممن افتتن به بارقة مودة إلا من طامع، أو مجرب آلمته التجربة، أو طالب للاستقرار، جاعل إظهار الهوى وسيلة الاختيار، إلا من رافقك في دربك، وعاش معك في كربك، وسار هواه مسيرة هواك، تجدده الأيام، وتزينه الحقائق والأحلام.
لقد قال أحد الشعراء الذي بلغ من العمر عتيًا، بعد أن مالت إليه فتاة بطرفها ففتنته بحسنها:
نظرت إلي بعين من لم يعدل
لما تمكن طرفها من مقتلي
لما رأت وضح المشيب بعارضي
صدت صدود مغاضب لم يقيل
فجعلت أطلب وصلها بتعطف
والشيب يغمزها بألا تفعلي
هكذا قال، وشرح لنا الحال، فانصرفوا أيها الموقرون، عن عقد غير مضمون، لا سيما مع من هن أصغر منكم سنًا بكثير، لا سيما إن كان لها غير جدير، وبمثل هذا القول يقال للنساء، لكن الأمل موجود، والمرء يعلل النفس بالآمال يرقبها، يقول الشاعر:
إذا رام قلبي هجرها قام دونه
شفيعان من قلبي لها جلدان
إذا قلت لا، قالا، بلى. ثم أجمعا
جميعًا على الرأي الذي يريان
علينا أن نقر بأن للهوى طعمًا مستساغًا، لكنه لا يخص جنسًا بعينه، لهذا فإن النظر إلى من لا يرغب في لقياك، ولا يروم النظر إلى محياك، نوع من الجنون، فلزمت العودة إلى الحقيقة البشرية، والسنن الكونية، إلا أن هناك استثناء، والاستثناء لا يعول عليه، فنجد من التاريخ والواقع من أهداه الله قلب فتاة، فهنئت نفسها بلقياه وسعدت بالعيش معه، فطابت أيامهما، وتحققت أحلامهما.
وفي الواقع أن المرء سيظل بأمل، ويحلم ويمني النفس، ويكذب على نفسه ويرسم، وأظن أن ذلك من متع الحياة.