حين قرأت روايتي المعطف والأنف خُيّل إليّ أن المؤلف يسرح كثيراً بفكاهة وسخرية متناهية غير آبه بوقت القارئ فإذا بي أُمعن في القراءة أكثر بعد أن ترددت في الإكمال على قصرهما حتى تبين لي أن المؤلف يهرول بعيداً نحو مصائب المجتمع الروسي وآفاته وما سبّب الفساد من فقر واضطهاد طبقي ولكن بطريقة رائعة لا تخلو من الإبداع ! فقد دأب الروائيون الروس على اقتفاء الرمزية كعلامة بارزة في الأدب حسب متطلبات الأوضاع السياسية آنذاك وكما قال روسو: (كل شيء يعول بالكامل على السياسة) وهي طريقة حديثة يعود الفضل فيها لبودلير الشاعر والناقد الفرنسي مما مهد الطريق فيما بعد للواقعية الأدبية والتي برز فيها بشكل ملفت الروائي الكبير غوغول بل يُعد المؤسس الحقيقي لها في روسيا القيصرية وفيما بعد مما حدى بدوستوفسكي أن يقول (كلنا خرجنا من معطف غوغول).
عندما كتب غوغول مسرحيته (الأنف) سنة 1836م لم يكن يقصد بها الكوميديا الهزلية أو الساخرة فقط ! لكون مجرد الأنف يجلب الاستهزاء لصاحبه وأن تكون قطعة منك قد بُترت وتركتك تلهو بخيال جموح وتحلم بسيريالية خيالية حتى إذا أفاق من أضغاثه جلس يبحث عن أنفه المفقود تحت مرقده وبين زوايا المدينة ! وهو ليس صراعا خفيا تتبلور أحداثه وتتشكل ضد الذات فحسب وإنما هو في الواقع صراع مع الآخر من أجل العدالة والنزاهة ! لقد كانت روسيا ذاك الوقت تعج بالدكتاتوريين والاستبداديين من آل رومانوف وحواشي الإقطاعيين ! فكانت الكوميديا جزءا من الفن المسرحي الغائب عن الساحة الأدبية الروسية وبات الشعب يتخيل ضحكاته عبر الذكريات مع حلم الديمقراطية والعيش الرغد والتي كانوا يرونها عبر ضوء خافت من غرب أوروبا يشيح بوجهه أحياناً حين تشعر الكنيسة أن هناك هرطقة حضارية من شأنها أن تزعزع نفوذها باسم الحرية ويبزغ حين يعلو صوت الشعب على نهر من الدماء !
فكوفاليوف يتحاور مع أنفه بعد أن بُتر منه عن الفساد المستشري في عضد الدولة والمجتمع وهو صاحب المنصب المرموق والمتعالي على الناس وسقوطه في يد خباز إنما هي علامة رمزية إلى ما آلى إليه في آخر المشوار من وضاعة متوقعة وإشارة إلى حقيقة المرء وصعوده نحو الهاوية بصناعة مزيّفة ولذلك ختم كلامه بقوله (كل ما يحدث في هذا العالم لا معنى له)
قال الناقد ميرسكي عن تلك الرواية في كتابه «تاريخ الأدب الروسي»: (الأنف مجرد قطعة مسرحية ! مجرد هراء تقريبا ومع ذلك فإنها تكشف أكثر من أي عمل آخر، قوة غوغول السحرية لخلق فن هزلي غير اعتيادي من لا شيء)
كانت الفنتازيا الروسية الطاغية على قصة الأنف ! فالخيال الممزوج بالواقعية الرمزية تعبير استقراطي يتبناه كبار الروائيين الأوربيين في القرن التاسع عشر وربما للاضطرابات التي عاصرها غوغول أثناء حكم القيصر نيقولا الأول من ثورة الديسمبريين واحتجاج ومظاهرات الضباط كان لها الأثر الكبير في الاتجاه للرمزية للتعبير عن الحرية والاستبداد حيث إن العقاب الصارم بالسجن أو النفي إلى سيبيريا جزء من عقاب تتبعه مقصلة قد تكون من نصيبه في آخر الأمر فغابت مظاهر السعادة بعد ذلك أثر الثورات والمظاهرات آنفة الذكر فكان (الأنف) بقالبه الكوميدي الرمز إحياء لوجه الابتسامة الغائبة على محيّا الناس وتقديم قالب فني أدبي جميل تحي بها آمالاً غُرست في مخالب الطغاة ! ولذلك كان ترحيب النظام السوفياتي السابق لأوبرا (الأنف) لشوستاكوفيتش الذي استلهم مسرحية غوغول إنما كانت موجهة للنظام الاستبدادي الملكي السابق فكان الترحيب بها من قبل البلشفيين مصدر سعادة وهو في الحقيقة إنما تمثل كل الأنظمة القمعية على حدٍّ سواء.
- زياد بن حمد السبيت