بعد أمطار غزيرة تهطل بالغزارة نفسها منذ عشرات السنين، أطلّت الأم الخمسينية الشاعرة ومشرفة اللغة العربية فاطمة عسيري، من شرفة بيتها في حي «الصفرا» بمدينة أبها، فلم تر الوادي الذي كانت تراه منذ خمسين عاما، لتتداعى ذكرياتها، وتبدأ في سرد حكايتها الشاعرية على ابنها الفنان التشكيلي الذي يحب تصوير «السنابات»، كلما مرّ بسيارته من أي نفق جديد، أو تمشّى في شارع الفن.
تقول فاطمة: «كان يا ما كان، في سالف الغيث والمكان، كانت الأودية وديانا كما خلقها الله وأرادها، ولم تكن عبّارات ودهاليز طولية تشبه العناد أو الانتقام من الجمال، حينها يا ولدي كان المطر ملهما لشعراء مدينتنا، وكانت لمفردة: «الوادي» إيحاءات شاعرية ليس لها حد، وكان سقوط المطر على الأرض لثْما وتقبيلا كما يقول عبدالله الحميد:
رقّتْ مَرَاشِفُها فالغَيثُ يلثمُها
واهاً لرقَّتِها يا صَاحبي واهَا
وكم هي رقيقة هذه الأرض الأنثى التي تغري الغيث باللثم والتقبيل، رقيقة إلى حد أن البرق والغيم يتنافسان على وصلها، كما هي الحال في خيال شاعر اسمه صالح العمري حين يقول:
أرضٌ من المسك أم جوٌّ من الكادي
أم فارسُ الغيمِ يهوى غادةَ الوادي
البَـرْق في قلبـِه قد لاح يطـلبُها
وحـفّها حرسٌ من ذاتِ أوتـَادِ
غيمٌ من العشقِ والأشواقِ يمطِرُها
في خدّها قُبَـلا من خفـْق رعـّادِ
وقبل أن تتحول الأودية والشعاب إلى مخططات سكنية، وقبل أن نجور على وادي «ضلع»، بصناعة مساحات غبية سميناها استراحات ودورات مياه أو «تبريدات» كما يقول سائقو الشاحنات ومن سار على نهجهم، وهي خطيرة في حالي الصحو والمطر، وتدل على عقول عاجزة عن فهم الأرض، وعلى أن بعضهم ينفذون مشروعات -أيّ مشروعات- ليقول عنهم المتعصبون لهم إنهم عملوا، لا ليخدموا الأوطان والإنسان.. قبل ذلك كله يا ولدي، كان الغيمُ مصدر التفاؤل والطرب، حتى إنه يركض فرحا كما يقول أحمد عسيري:
ورَكْضةُ الغيمِ في «دلغان» تُطْرِبُني
ونَفْحةُ الشِّيْحِ في كفِّ المًلِيْحَاتِ
وبَارِدُ الغَيثِ في الغُدْرانِ يَغسِلُني
ويَزْرَعُ الشّوق في حِسّيْ وفي ذاتي
أما أحمد بيهان الذي توفي قبل بضعة أشهر، فهو يجعل السحبَ الأبهاوية تمشي على الأرض هوناً، وتترنح كما يترنح الثمِل، لثقتها - في ذلك الوقت- من أن ماءها سيجد أودية يسيل فيها، يقول:
تَخْطُرُ السُّحبُ تَحتَها خاشِعاتٍ
ثَمِلاتٍ بِعَاطِرِ الأنسَامِ
وحين كان لمدينة أبها واد جميل وواسع، كان المطر سبباً في تِيهِها، فكانت تتبختر بعده، كما تبخترت خطيبتك بجمالِها في يوم «الشوفة»، ولم تكن أبها تصرخ مذعورة، ولم تكن حنجرتها تطلق صافرات الإنذار التي نسمعها الآن. يقول علي مفرح الثوابي:
تَرَى المُزْنَ هطّالاً على كُلِّ رَبْوَةٍ
وَيَهْميْ زُلالاً بين بَرْقٍ ورَاعِدِ
إذا لامَسَتْ جُنْحَ السّحاب تبخْتَرَتْ
وَتَاهتْ دلالاً كارتِعاشَةِ نَاهِدِ
وحين كانت للأرض أودية، وأمناء يفهمونها، ولا يكابرون، ولا يصرون على الأخطاء الكارثية الكبرى، كانت الأرض تضحك وتطرب كلما انهمرت على وجناتها دموع السحاب.
يقول محمد العمري:
ماءٌ مِنَ المُزْنِ غادَاهَها فَراقَ لَهَا
بُكاؤهُ فَعَلاها الضّحْكُ والطّرَبُ
تبسّمَتْ مِثْلَ حُسَّادي وقدْ ذَرَفَتْ
بالدّمْعِ مِثْلَ عيونِي هذهِ السّحُبُ»
ارتفع صوت صافرات الإنذار أكثر، فانتهت حكاية فاطمة، ولم تنته، وخرج ابنها ليرى هل فاضت مياه السد، وليتأكد من صلاحية
«العبّارات» الجديدة، وكان ينوي الذهاب إلى أحد الأنفاق الجديدة التي يحب تصويرها، ليصور «سنابات» غرق السيارات، لكنه لم يصل؛ لأن طريق الحزام كان مغلقا بسبب السيول.
... ... ...
ملحوظة: كل الشواهد الشعرية الواردة في حكاية فاطمة، قيلت في عهود أمناء منطقة عسير قبل أن يتولاها «الصالحون»
- أحمد التيهاني