د.عبدالله الغذامي
كان المعهد العلمي في عنيزة يحتوي على مكتبة ثرية متاحة لطلبة المعهد، ولي معها تاريخ امتد لخمس سنوات أمضيتها في ذلك المعهد، بدأت معها قارئاً وضيفاً مستديماً لأصبح بعد ذلك ممثلاً للشيخ محمد العثيمين، وكان هو المشرف المكلف بالمكتبة، تبعاً لتوزيع المهام على المدرسين، وقد أنابني الشيخ لأتولى الإشراف على النظام في المكتبة، من ضبط الأصوات وحفظ سجل الإعارات، والتأكد من أوضاع حال المكتبة بعامة لتكون بيئة جيدة للقراءة والنظام. وكنت يافعاً لما أزل أخطو خطوي الأول في عالم الثقافة وعالم المسؤولية، وكأني رغبت في أن أصطنع لنفسي سلطة متنفذة فصرت أنقل للشيخ أخباراً مختلقة عن وجود ضوضاء في القاعة وأني كلما أمرتهم بخفض الصوت تمنعوا بحجة أنني لست مسؤولاً، وكنت أحاول من الشيخ أن يحصل لي على قرار من مدير المعهد يشير إلى أني أنا الأمين المفوض ويكتب هذا على باب المكتبة، وكان الشيخ - رحمه الله - يتلقى كلامي بهدوء وسكينة ويؤكد لي أنه لا يرغب الحضور بنفسه خشية أن يكون حضوره ثقيلاً على الطلاب، وهي ملاحظة صحيحة لأن للشيخ مهابة في النفوس وإذا حل في مكان أو مر في شارع فإن مروره يؤثر على سلوك الناس، وخاصة الطلبة، ويمارسون درجة عالية من ضبط النفس واللغة والتصرف إلى أن يمضي الشيخ في مساره بهدوء وسكينة ووقار في النظرات والحركة، ولو حضر للمكتبة فلا شك أن حضوره سيسبب حرجاً في كل شيء، وهذا ما جعلني أستغل الموقف ظناً مني أن هذا سيتيح لي فرصة التسلط، غير أن محاولاتي تكسرت حين نصحني الشيخ بقوله: يا عبد الله إنك ستكسب الناس بالمحبة وليس بالقوة.. فجرب أن تعاملهم بالود والحسنى وستلين نفوسهم لتوجيهاتك وسيعم الهدوء في المكتبة، كما كان في عهد زملائك الذين سبقوك في المهمة.
تلك كلمات قضت على غلواء الفتوة عندي ووضعتني في مقارنة مع زملاء قبلي وهي مقارنة أحرجت حججي المسبوكة، وهي حجج مختلقة ولم تكن صحيحة، وعدت إلى عمل المكتبة مقرراً أن أكون واحداً من زملائي ولست سيداً لزملائي، وأصبح هذا درساً لي تعلمت منه حسن المسلك، وما زلت أضرب لنفسي مثلاً من سيرة الشيخ نفسه حيث تملكت سيرته نفوس كل من تعامل معه، لأنه يشعرك أنه رجل بسيط وتلقائي وباسم الوجه والكلمات، وهنا فأنت تكسب الناس بالمحبة وليس بالسلطة، وهي جملة تعدل كل ما قرأته في كتب تلك المكتبة ذات المعروف على كل طالب مر بذلك المعهد. وأشير إلى أن كتب تلك المكتبة كانت تضم كتباً في كل التخصصات من الديني واللغوي حتى الحداثي، فلسفة ونصوصاً، ولم تكن تتعرض لأي رقابة من أي نوع.