سهام القحطاني
أقصد بالنسخنّة هو أن يتحول العالم كله إلى نسخة واحدة،نسخة مُمثلة لمن يمثل السلطة و القوة الأعلى في العالم،وبهذا التحوّل نجد أنفسنا أمام عملية للسطو على قيمة الاختلاف التي تأسست الإنسانية في ضوئها ونمت تجربة المعرفة بفضلها.
كما هو تحوّل راهن على إحلال «أحادية الأيديولوجية المثالية» محل «قيمة الاختلاف» من خلال نمذجة «خصائص مثالية لدين مُعين أو عرق معين أوثقافة معينة»وهذه الإحلالية ليست بجديدة تمثلت في «مفهوم العولمة»، بل هي قديمة تواكبت مع ما اكتسبه الإنسان من سلطة الاستحواذ و الهيمنة، باعتبار أن النموذج»المثالي بالقوة والكمال» لابد أن يسود والسيادة هنا تعني أن «يتحول الجميع إلى ممثلين لذلك النموذج و مُعبرين لخصائصه»، والسعي إلى فرض «نسخنّة مثالية نموذج القوة والكمال» هو الذي يختبئ دائما وراء الصراعات الإنسانية، هو الذي يختبئ وراء الحركات الدينية التي تسعى إلى جذب الآخرين المختلفين ليصبحوا نسخا مضافة إلى بقية أعداد النسخ المتوفرة، أليس «التبشير بالمسيحية و الإسلام» ما هما سوى السعى إلى «وجوب نسخنة الجميع» لإزالة قوة الاختلاف و الخلاف وهما اللتان يصنعان متعة درامية الحياة؟.
«إن الفيالق التي ترسلها أمريكا تحمل الصليب لا السيف سلاحا، فالدولة العليا التي تسعى أمريكا إلى الحصول على تأييد كل البشر لها ليست ذات أصل إنساني وإنما إلهي»-الرئيس الأمريكي كولدج-،وليست أمريكا التي تحمل هذا الاعتقاد بل سبقها اليهود الأوائل و المسيحيون الأوائل و المسلمون الأوائل.
مع أن الأديان في أصلها لم تكن داعية إلى «جبرية» سحب الأفراد والأمم من دينهم إلى دين آخر، فالإسلام كمثل المسيحية واليهودية ترك للفرد حرية اعتناق ما يقتنع به من دين، وما حدث من غير ذلك لم يكن سوى اجتهاد الأسلاف الأوائل من كل دين، وما حدث من المتأخرين من كل دين له مقاصد شيطانية سعت إلى فرض تعاليم ما أنزل الله بها من سلطان.
أليست نظرية التكفير ما هي سوى فرض «وجوبية النسخنة» مع سبق التعمد والإصرار؟
أليس التطرف والإرهاب يسعيان إلى فرض إلزامية النسخنة أو الموت و التدمير؟
أليست نظرية أن تكون معي أو ضدي هي إلزامية النسخنة أو التدمير؟
لكل دلالة معيار أو مجموعة معايير، وعادة ما تتحرك الدلالات وفق أيديولوجية المتحكم في صناعة تلك المعايير، وهي صناعة بلاشك لها أدواتها، كما أن لها وهو الأهم مقاصدها وغاياتها.
و لنتوقف عند دلالة مرتبطة بلعبة النسخنة، وهي دلالة «القوي والضعيف».
انبنى مفهوم السوبرمانية على دلالة «القوة المثالية»، ولا أقصد بالمثالية الدلالة الرامية لخاصية الخير المركزة، أو أقرب إلى الواقع لا تعني القوة المثالية تلك الخاصية، وبذلك فنحن هنا نواجه «تحيز الاستحقاق» وليس ضرورته؛ من خلال من يستحق أن يمتلك القوة المثالية؟
وهذا السؤال التحيّزي بدوره يشترط توفر ذلك الاستحقاق بشروط ثلاثة هي: العلم و السلطة و التمكين.
وبذلك تُصبح المعادلة كما يلي: من يملك تلك الشروط يستحق ملكية القوة المثالية، وبذلك من لا يملكها ليس فقط هو الضعيف المثالي كمقابل للقوة المثالية، وفروع ذلك التقابل « أبناء النور مقابل أبناء الظلام، ومحور الشر مقابل محور الخير»، بل يُضاف إلى ذلك وهو الأهم محاولة تحويل المضاد للقوة المثالية إلى أمر من أمرين إما الفناء»لا تضع البلطة حتى تفنيهم» وإما النسخ لمطابقة نموذج تلك القوة المثالية، والتحويل هنا وهو الأخطر يأخذ منحى الرسالة الإلهية حينا والسامية حينا والمخلّصة حينا»
«نحن لدينا رسالة انها دعوة مميزة من الإله القدير لتصدير نعم الحرية و تعاليم المسيح التي تنعم بها هذه الأمة العظيمة إلى الأعراق في الدنيا»-المؤرخ الأمريكي تشارلز فرانسيس آدمز-
و السعي إلى نسخنّة الآخر لمطابقته مع ممثل نموذج القوة المثالية يهدف في المقام الأول إلى تحقيق سلطة التمكين، فكلما زاد عدد مجموع المطابق اتسعت سلطة التمكين و الهيمنة واستعمار هوية الآخر وأصالته.
إن فكرة تحويل العالم إلى «قرية صغيرة» هي فكرة قائمة على لعبة النسخنة؛ انفتاح الهويات على بعضها البعض وقد يُحسب في عمومه أنه داعم للفهم بين المختلفات، لكن المقصد على الأقل وفق الناتج أنه دفع الجميع إلى لعبة النسخنة لخلق فكر أحادي و هوية أحادية و رؤية أحادية ثم شكل أحادي، يتحكم بها من يملك القوة المثالية، مستغلا الطبيعية البشرية في ميل الضعيف لتقليد القوي.لتمسخ كل العلامات المميزة للهوية المختلفة ليتحول العالم إلى نماذج بشرية مصنعة ذات وجدان واحد.