د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
قد يعدل في الاستعمال اللغوي عن أصل الاستعمال متابعة واستمرارًا لحكم راهن جعل أصلًا بعد أن كان فرعًا، وهذا انتقال بالاستعمال من درجة إلى درجة أخرى وهو ما سماه ابن جني بالتدريج، قال «باب في تدريج اللغة: وذلك أن يشبه شيء شيئًا من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره» (1). ومثّل لذلك باستعمالهم (أو) استعمال واو العطف؛ لأنها وردت في مواضع جاز فيها التخيير والإباحة، إذ لَمّا دلت على الإباحة في (جالسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين) بسبب قبول المعنى لذلك، فكأنه: جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين، استعملوها في مواضع لا تخيّر فيها، قال «ثم إنه لما رأى (أو) في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرّج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال (أو) في معنى الواو ألا تراه كيف قال:
وكان سيان ألا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح
وسواء وسيان لا يستعمل إلا بالواو. وعليه قول الآخر:
فسيَّان حرب أو تبوءوا بمثله ... وقد يقبل الضيمَ الذليلُ المسيرُ
أي فسيَّان حرب وبواؤكم بمثله، كما أن معنى الأول: فكان سيان ألا يسرحوا نعما وأن يسرحوه بها. وهذا واضح» (2).
ومن أمثلة أثر الاستمرار استمرار تأنيث الفعل وإن كان فاعله مذكرًا، قال السيرافي «وقال بعضهم - بعد استمرار لفظهم على تأنيث الفعل في (اجتمعت اليمامة) -: اجتمعت أهل اليمامة، فترك علامة التأنيث، وقد جعل الفعل للأهل، وكان ينبغي أن يذكر لأن الفاعل هو الأهل، والأهل مذكر، وهو في المعنى فاعل، فلم يذهبوا بالتأنيث إلى اللفظ ولا إلى المعنى، لأن الأهل مذكر في اللفظ والمعنى.
ووجه قولهم: اجتمعت أهل اليمامة؛ أنهم لما أثبتوا التاء في قولهم: اجتمعت اليمامة، وأكثروا استعمال هذا الكلام، ثم أدخلوا الأهل؛ تركوا التاء في قولهم (اجتمعت) ثابتة على ما كانت عليه» (3).
ومن أمثلة الاستمرار أنهم عاملوا المبدل معاملة الأصل، قال ابن جني «وإذا جاز استمرار البدل في نحو عيد وأعياد، وإجراؤه مجرى قَيْل وأَقْيَال... فأن يجوز استمرار هذا في الهمزة ... أثبت وأحرى وأجدر، ألا ترى أنهم قالوا في تحقير قائم: قُوَيْئِم، فأثبتوا همزه كما أثبتوا همزة سائل من سأل؟ وقالوا في تحقير أدؤر: أُديئر، فأجروها مجرى همزة أرؤس» (4).
ومن ذلك معاملة المزيد معاملة الأصلي، قال ابن جني «كما أنهم لما استمر استعمالهم (الملَك) بتخفيف الهمزة صار كأن مَلَكًا على فَعَل، فلما صار اللفظ بهم إلى هذا بنى الشاعر على ظاهر أمره فاعلًا منه، فقال حين ماتت نساؤه بعضهن إثر بعض:
غدا مالك يرمي نسائي كأنما ... نسائي لسهمي مالِكٍ غَرَضَان
يعني: ملَك الموت ألا تراه يقول بعد هذا:
فيا رب عَمِّر لي جهيمة أعصرًا ... فمالِك الموت بالقضاء دهاني
وهذا ضرب من تدريج اللغة، وقد تقدَّم الباب (5) الذي ذكرنا فيه طريقه في كلامهم، فليضمم هذا إليه فإنه كثير جدًّا ... فأما وزن (مالِك) على الحقيقة فليس فاعِلًا، لكنه (مافِل) ألا ترى أن أصل «مَلَك» مَلْأَك: مَفْعَل من تصريف ألكني إليها عَمْرَكَ الله، وأصله أَلْئِكْني، فخففت همزته فصار أَلِكْني، كما صار (مَلْأَك) بعد التخفيف إلى مَلَك ووزن مَلَك (مَفَل)» (6). فإن يكن الأمر كذلك ألا يعذر المحدثون في جمع مدير على مدراء، وصححه أحمد مختار عمر معلقًا بقوله «رأى مجمع اللغة المصري أن توهّم أصالة الحرف الزائد لم يبلغ درجة القاعدة العامة، غير أنه ضَرْب من ظاهرة لغوية فطن إليها المتقدمون ودعمها [ص:677] المحدثون؛ ولذا ففي الوسع قبول نظائر الأمثلة الواردة على توهّم أصالة الحرف الزائد، مما يستعمله المحدثون إذا اشتهرت ودعت إليها الحاجة. وقد ورد منها في القديم: تمندل، وتمرفق، وتمسكن، وتمدرع. وهو ما ينطبق على كلمة «مُدَراء» (7).
... ... ...
(1) ابن جني، الخصائص، 1: 347.
(2) ابن جني، الخصائص، 1: 347-348.
(3) السيرافي، شرح كتاب سيبويه، 1: 97.
(4) ابن جنّي، المحتسب، 1: 49.
(5) انظر: ابن جني، الخصائص، 1: 347.
(6) ابن جني، الخصائص، 2: 79.
(7) أحمد مختار عمر، معجم الصواب اللغوي، 1: 676.