تقديم المترجم: هنا دراسة مشتركة للبروفيسور يورام ميتال والباحث موشيه ألبو نشرت عام 2014، قسم دراسات الشرق الأوسط، جامعة بن غوريون في النقب. وستشكل هذه الدراسة أحد فصول كتاب مترجم بعنوان «الأزهر والسياسة» (تحت الإعداد) أخطط لصدوره في عام 2018 بحول الله:
ووصفت دراسة حديثة محمودا باعتباره عالما إسلاميا بارزا ومؤثرا نجح في استخدام وسائل الإعلام الحديثة استخداما مكثفا لنشر أفكاره حول قضايا متعددة:
«وفي عام 1964، أسهم في تأسيس إذاعة القرآن الكريم بصفتها إذاعة متخصصة في القضايا الإسلامية. وتحدث في الإذاعة بانتظام، بما في ذلك برنامج «حديث الصباح» الذي كان أول برنامج يبث من إذاعة القرآن الكريم. وعلى الرغم من كونه برنامجاً قصيراً لا تزيد مدته عن 5-7 دقائق فقط، فإنه نجح في تحفيز علماء مشهورين آخرين لتقليده عبر إلقاء محاضرات مبسطة عبر الإذاعة حول مسائل إسلامية. (...) وزادت مشاركة عبد الحليم محمود الإذاعية وترسخت حتى بلغت ذروتها عندما أصبح شيخاً للأزهر (...). وعندما احتل قمة هرم السلطة الإسلامية، شَكَّلَ لجنة لوضع خطة لبرامج تلفزيونية متخصصة ومبسطة لتعليم عامة الناس الإسلام». (6)
وطوال حياته المهنية، التزم محمود بسمات العالم الملتزم والصوفي والمفكر الإسلامي الرصين. وقدمت كتاباته المميزة خليطاً فريداً من الروحانية والميتافيزيقيا والعقيدة الإسلامية. وتميزت حياة محمود بالبساطة، بعكس ما يتوقّعه البعض من أزهري بارز يعيش في برج عاجي؛ بل بدلاً من ذلك، كانت حياته تعكس ولعه بالنشاط الاجتماعي والسياسي. ومن ضمن القضايا التي ناصرها كانت الرغبة في تحويل مصر إلى «دولة إسلامية» حقيقية. وفي حين أن الشيخ يمثّل مؤسسة «متعاونة» مع النظام، إلا أنه نجح على الرغم من ذلك في التعبير عن آراء مستقلة، بل حتى سلبية حول موضوعات ذات أهمية دينية وقانونية وسياسية للنظام.
وكان أحد أهم أهداف محمود كشيخ للأزهر هو استعادة مكانة الأزهر كمؤسسة مستقلة. وناضل للحفاظ على مجالات عمل المؤسسة الدينية من تأثيرات النخبة السياسية، واتخذ موقفاً حازماً ضد القوانين الوضعية العلمانية. وأدى انتقاده العلني لسياسة النظام حول عدة أمور إلى وقوع عدد من المصادمات المباشرة مع الرئيس السادات. كما هاجم الشيخ علناً الحركة الشيوعية المحلية وحشد الجهود لمنع بزوغ ما وصفها بـ«ظواهر مهرطقة» في المجتمع المصري الحديث، عبر الشيوعية وكذلك عبر زحف القيم الثقافية الغربية «المنحرفة». وأخيراً، كان أحد أهدافه المركزية هو إيصال القيم والأخلاق الدينية إلى جمهور جديد. (7)
وتجلى، في مجمل أعماله، تحفظه على العقلية البيروقراطية السائدة في مصر ما بعد الاستعمار، مسلطاً الضوء على الطرق المختلفة التي أبقت الدولة المصرية المستقلة تحت التأثيرات الضارة للهيمنة الغربية. وفي الواقع، لقد اعتبر محمود الثقافة الغربية التحدي الرئيس للمجتمعات الإسلامية في العصر الحديث. وجادل، أيضا، بأن المحافظة على التراث الثقافي والتاريخي لمصر والتأكيد على التميز الروحي والقضائي للإسلام هي مفاتيح النجاح السياسي والاقتصادي والثقافي في مصر. وعبّر عن رأيه مراراً وتكراراً بأن الإسلام فقط هو الذي يقدم ثقافة أصيلة خالية من التأثيرات المهرطقة وغير الأخلاقية التي تناسب عصر ما بعد الاستعمار. وبالرغم من أن وجهة نظره فيما يتعلق بالغرب لم تكن فريدة، فإنه وَضَّحَهَا من منصب الأمام الأكبر المؤسسي الرفيع الذي يملك صدىً وقدرة عملية لفرضها.
وإذا كانت كتابات الشيخ محمود غطّت مجموعة واسعة من المواضيع، فإنه كان يكرر العديد من الأفكار: كأهمية المعرفة والتعليم؛ وسمو الآداب والأخلاق الإسلامية؛ وتفرد التاريخ الإسلامي؛ واندماج الروحانية الإسلامية مع التشريع؛ والنفي المطلق للآخر (كالغرب والصهيونية والشيوعية والعلمانية والزندقة)؛ وسمو اللاهوت والقانون الإسلامي؛ والحاجة إلى إصلاح السياسة والمجتمع المصري وفقاً لأركان الإسلام.
صُنع عَالِم إسلامي
أغلقت ثورة يوليو 1952 الستار على خمسة عقود من المناقشات العامة الحيوية التي شكلت العصر الذهبي للثقافة والمثقفين في مصر الحديثة؛ ولكن حتى في ظل القيود الوحشية للنظام الناصري، وجد الفنانون والمفكرون وسائل مختلفة للتعبير عن وجهات نظرهم. وكما يتضح من إنتاج محمود، لم تكن انتقادات الأوساط الدينية غير معتادة. وعلى الرغم من العقبات الهائلة التي وضعتها الحكومة، تمكَّن الشيخ من التعبير عن آرائه عبر القنوات المؤثِّرة للتشريع الديني والكتابة العلمية. (8) وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، أدى المثقفون وشخصيات أخرى دوراً حاسماً في إعادة تعريف الهُوية الوطنية لمصر وتوضيح صورها السياسية والثقافية. (9) وتصور جميعهم تقريبا «الحداثة» باعتبارها مجموعة مرنة من القيم التي ينبغي أن تُبنى على الأسس التقليدية خاصة الدين واللغة. ووفقاً لذلك، فإن «إعادة صياغة» هُوية مصر في النصف الأول من القرن الـ20 شملت إنتاج مجموعة جديدة من الأعمال الثقافية والكتابات الفكرية المستمدة من رموز الماضي الفرعوني والعربي والإسلامي.
وهيمنت مسألة منزلة الدين في الدولة المصرية الحديثة على الخطاب العام. وعلى سبيل المثال، شرح غريشوني وجانكوفسكي سبب وفرة الكتابة عن التاريخ والحضارة الإسلامية. وصدر العديد من الكتب حول الشؤون الدينية، وكانت معظم الدوريات الرائدة تنشر موضوعات إسلامية. وصدرت مجلة الأزهر الشهرية الجديدة «نور الإسلام» لأول مرة في عام 1931، حيث تم طبع 10?000 نسخة منها؛ وهو رقم سيرتفع لاحقاً بصورة كبيرة. (10) وخصصت المجلة مساحة معتبرة لمناقشة المواضيع الإسلامية مثل التفسير والفقه. كما رفعت شعار التفسير الحداثي للإسلام بشكل يتحدى الثقافة الغربية، وشجبت القبول الأعمى لأفكاره وقيمه. وبالمثل، أكدت هيئة تحرير «نور الإسلام» أن الثقافة المصرية الحديثة يجب أن تستند، أولا وقبل كل شيء، على التراث العربي والإسلامي. (11)
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com