حمّاد السالمي
* استعرض الصحف الورقية صبيحة كل يوم، وأظل أتابع بقية يومي ما تعرضه وسائل (التفاصل الاجتماعي). أقول: (التفاصل) لا (التواصل). ولهذا حديث آخر. أتوقف بعض الوقت عند اللافت مما أجده من منشورات، وهذه حال من يتخذ مواقف خاصة مما يجري حوله.
* توقفت صبيحة يوم الخميس قبل الفارط؛ عند ثلاثة منشورات شدتني وأجبرتني على التمعن فيها. ذلك أن بينها رابطًا واحدًا، أو قل: هي تكشف عن عوار واحد في المجتمع الذي يأبى إلا أن يكون جلادًا وضحية في الوقت ذاته.
* أبدأ بأولى الثلاثة، فقد جاء أن: (البريد يحقق مع موظفين اثنين رميا بريد واصل في حاوية)..! حاوية قمامة أعزكم الله..! هذه الحادثة أعادتني بذاكرتي إلى أيام الطلب قبل خمسين سنة مضت. كنت أتابع برامج المسابقات الثقافية على التلفزة الأبيض والأسود الوحيدة، والإذاعة الوحيدة كذلك، وأكتب الأسئلة المتلفزة والمذاعة، وخاصة مسابقات رمضان، وأكب على الكتب للبحث عن إجاباتها، ثم أبعث بها عن طريق البريد بعد ذلك في انتظار الفوز بالجوائز. كنت أفعل هذا كل عام دون ملل أو كلل أو يأس من الفوز؛ إلى أن اكتشفت ومعي بعض الأصدقاء مثلي، أن أحد منسوبي البريد كان يرمي برسائلنا في حاوية القمامة في طرف شارع البريد بالطائف، وعندما سئل عن السبب قال: بأنه سمع داعية من منبر جمعة يحرم هذه المسابقات الفضائية والهوائية، وأنها من القمار المنهي عنه شرعًا..! الحادثة تتجدد اليوم؛ ولو أن فيها شبهة فساد إداري. ولكن.. هل هناك فساد أكبر وأخطر من الفساد الفكري المتلبس بالدين..؟
* وثانية هذه الثلاثة؛ ما جاء عن: (فصل معلمّة إيطالية طالبت بحرق المسلمين وقتل أطفالهم). يقول المنشور للتوضيح أكثر: (فصلت وزارة التربية الإيطالية معلمة بسبب عبارات عنصرية بحق المسلمين والمهاجرين، ولعدم قدرتها على الالتزام بحدود دورها التربوي. وذكر التلفزيون الحكومي أن: فيورنيتسا بونتيني البالغة من العمر 59 عاماً- وهي معلمة للغة الإنجليزية في مدرسة ماركو بولو الثانوية بالبندقية- طُردت بقرار من وزارة التعليم، على خلفية عبارات عنصرية تجاه المسلمين والمهاجرين تكتبها على صفحتها في فيسبوك. ومنها: يجب القضاء على أطفال المسلمين؛ لأنهم جميعًا سيصبحون مجرمين. ويجب أن نحرق المسلمين أحياء، لنقتلهم جميعًا)..!
* بطبيعة الحال؛ عقولنا المبرمجة مسبقًا على التكفير والتكريه؛ تركز على جريمة هذه المعلمة الحمقاء صاحبة الفكر العنصري المتطرف المشين الذي يدعو إلى حرق المسلمين وقتل أطفالهم لمجرد أنهم مسلمون.. هناك وجه ثانٍ لهذه القضية لا نعيره التفاتًا، وهو موقف الدولة الإيطالية والمجتمع الإيطالي المتمثل في نصرة حق المسلمين وطرد هذه المعلمة المتطرفة، وتطهير المجتمع الإيطالي والتعليم الإيطالي منها ومن أشكالها.
* هناك وجه ثالث لا نراه ولا نريد أن نراه. تصوروا لو أردنا أن نأخذ هذا الموقف الإنساني الشجاع للدولة الإيطالية والمجتمع الإيطالي؛ وأوقفنا وطردنا كل معلم أو معلمة أو خطيب جمعة، أو داعية منتفخ الأوداج والجيوب، أو آخر مشخبط على (وسائل التفاصل الاجتماعي)؛ فكم ستكون حصيلتنا من هؤلاء المكرّهين في الغير والمكفرين لهم، والداعين لسحقهم وقتلهم وسبي نسائهم..؟!
* صورة فظيعة أليس كذلك..؟ كل يوم وكل ساعة؛ نُصدم بمن هم على شاكلة المعلمة الإيطالية المكفرة والمتطرفة والمكرهة في الإسلام وأهله، وبيننا من هم مكفرون ومكرهون؛ ليس فقط لمن هم على غير دينهم فحسب، وإنما لمن هم على غير مذهبهم، وعلى غير طريقتهم في التفكير أو اللبس والشكل أحيانًا. إذا سلمت على أحدهم فلم يرد السلام، فتحسس شماغك وعقالك، وتفقد مقاس ثيابك، ولحيتك، وانظر في المرآة إن أردت، أو تذكر أن بعضهم يجرم النظر في المرآة، فانتبه يا رعاك الله.
* أما ثالثة الثلاث الموقفات للقراءة والتمعن يا سيدات ويا سادة؛ فهي ما ظهر وبدا وبان؛ من أن برامج الترفيه التي بدأت على استحياء في قليل من المدن؛ أشعلت فتيل الخطاب الديني المتطرف والمتشدد من جديد، هذا الخطاب المخاتل الذي وجد فيها فرصة للعودة إلى الظهور بهدف التأليب على الدولة أولاً، ثم الكلام على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتذكير بها. (لعل وعسى)، وممارسة لعبة قديمة جديدة تستهدف تشويه صورة أعيان الناس من مسؤولين ومثقفين وكُتاب وخلافهم، ومن ثم ترديد أسطوانة سامجة مشروخة، تكرّس مفهومًا مغلوطًا عن خطر العلمانية والليبرالية، وهو مفهوم ينطلي على الجهلة والسذج الذين ليس لهم علم ولا فهم، لعدم وجود متمذهبين بالعلمانية أو الليبرالية أصلاً. وهذا طُعم ابتلعه ويغص به صغار الدعاة والخطباء الذين يفرحون بالظهور على المنابر، ويتهالكون على الخطابة والكلام؛ دون معرفة بالشأن السياسي، ولا فقه شرعي حقيقي، ولا حتى منطلقات فكرية سليمة، إنما هم أتباع وخدام لقادة كبار؛ ميولهم إما قاعدية وداعشية، أو متحزبين ومتأخونين لا غير.
* انظروا جيدًا.. منذ خمسين سنة وإلى اليوم؛ وهناك من ينخدع أو يتخادع لداعية وخطيب جاهل أو مغرض، ثم سرعان ما يتحول إلى دمية رخيصة لفكرة متطرفة ومتشددة، تكرّس الفرز الطبقي، وترسخ التصنيف الاجتماعي المفضي إلى التكريه والتكفير. ثم نقول بعد ذلك: كيف نشأت القاعدة..؟ وكيف برزت داعش..؟