عبدالعزيز السماري
لأسباب لها علاقة بطبائع البشر كان ومازال للاقتصاد والكسب المادي غير المشروع ثقافة خاصة في التقاليد العربية والإسلامية، ولهذا كانت أنظمة المحاسبة المالية الأقل تطوراً، وعقوباتها الأقل تعطيلاً أو تعويماً، ولا أعني بالكسب غير الشرعي فقط ذلك اللص الذي يكسر باب المحل التجاري أو يقطع الطريق لسرقة العابرين، ولكن ذلك الإنسان الذي يختلس أو يأخذ المال عبر علاقاته الشخصية في المجتمع ..
ومن أجل وعي أكثر للموقف المتساهل من الاستيلاء على المال العام، علينا إلقاء نظرة على الموقف الفقهي من سرقة بيت مال المسلمين، فقد استدل جمهور العلماء على سقوط حد السرقة (القطع)، وذلك لأن سرقة المال العام فيها شبهة تدرأ الحد عنه، لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادرؤوا الحدود بالشبهات)..
وتفسير الشبهة أن الأموال في بيت المال مِلكٌ للناس، وإذا كان السارق واحداً منهم، فيكون له حق، ووجود هذا الحق يدرأ الشبهة!، وربما يفسر ذلك عدم احترام الناس للملكية العامة!، وترويج المقوله الشهيرة (سرقة الدولة حلال)، فكان ذلك الباب الذي دخل منه حرامية المال العام بعد أن أمنوا العقوبة بسبب خيانة بعض المشرعين لأمانتهم الفقهية.
من الأشياء المسكوت عنها أيضاً في ثقافتنا الدينية الخلاف حول تشريع العطاء، ويذكر التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من أسس ديواناً للعطاء، وفرضه للأقرب فالأقرب، وفي نفس السياق كان لأبي سفيان رأي مخالف، فقد قال زعيم قريش الأسبق أبو سفيان بن حرب للخليفة عمر : أديوان مثل ديوان بني الأصفر ..، إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان، وتركوا التجارة، فقال عمر: لا بد من هذا فقد كثر فيء المسلمين.
بنو الأصفر هم بلاد الروم وسموا ببني الأصفر لشعرهم الأشقر، وفي هذه العبارة مغزى عميق، فالكسب من العمل والتجارة كانت ثقافة عربية، وكانت قريش حاكمة الأمصار العربية من خلال معاملات الاقتصاد التجاري، وهو ما أهمله المؤرخون حين كتبوا تطور الاقتصاد البشري في التاريخ.
يتضح من الحوار أن ما فعله الخليفة عمر بن الخطاب كان اجتهاداً شخصياً منه، وكان له الأثر الكبير في تراجع مهنة التجارة، ومنها دخلت المحسوبية إلى أن تكون اجتهاداً دينياً، وكانت كلمة أبي سفيان في منتهى العمق، وتدل على عقلية اقتصادية فذة، بغض النظر عن مواقفه السابقة تجاه الدعوة، فقد أسلم وترك عبادة الأوثان.
حسب أبي سفيان بن حرب، لم تكن ثقافة الغزو ودواوين العطاء تقاليد عربية في ذلك الزمن، بل كانت رومانية وكانت تقوم بدور الاقتصاد الاجتماعي في بعض المجتمعات البدائية في الغرب، بينما كانت دولة قريش العربية يقوم اقتصادها على ثنائية التجارة والعمل، ولم يكن لها جيش يغزو الآخرين لأخذ أموالهم، وتوزيعه على أفراد القبيلة .
لعلني من أولئك الذين يؤمنون أن بعض التقاليد الموروثة أو المستوردة تم إلباسها لباس الدين لأسباب سياسية، وقد كانت الغطاء الآمن للكسب المادي غير المشروع، ولهذا كانت نظرية العطاء خروجاً عن نواميس ثقافة العمل، وإذا لم نعد الكسب المادي إلى العمل والابتكار والإنجاز، سنصل إلى درجة الانفصال بين طبقتين أحدهما ثراء فاحش، وأخرى تئن تحت خطوط الفقر .
لا يمكن أن يؤسس العرب اقتصادا جديداً ومؤثراً بدون الخروج من دوائر العطاء لأسباب اجتماعية وسياسية، إلى ترسيخ ثقافة العمل على أن يكون الكسب المادي نتيجة لعمل المواطن ولإنجازه في سوق العمل، وإذا لم نخرج منها، سنستمر في عالمنا العربي في استخدام المسكنات في معالجة عثرات الاقتصاد من خلال إما نظام الهبات أو برامج الضمان وتحسين الأوضاع المجانية، وغيرها من المصطلحات، والله ولي التوفيق.