د. خيرية السقاف
باختلاف المواقف التي تضع المرء في مواجهة التعامل المباشر, وغير المباشر مع آخر، وباختلاف أدوار الآخر الذي يتعيّن عليك التعامل معه, وتنوّع مسؤولياته, وتفاوت مستويات مهامه، يبقى لكل إنسان خصائصه الذاتية في كيفية التعامل مع الآخر..
حين تتعرّف على الكثير الذي لا يُحصى منهم, وتحديداً مواقفهم من أدوارهم, وفي مواقع أعمالهم, وأسلوب تعاملهم مع أدوارهم, فلسوف تعلم يقيناً أن فيهم من في المواجهة يقبع خلف الأبواب, لا يطل عليك إلا إن كنت تعني لمصلحته باباً, أو كانت لاسمك وجاهة فيتقي قصوراً يُشهد عليه, فيحرص على ألا ينكشف لك قناعه ثم يروغ منك!!..
بينما هناك منهم من يشرع بابه قبل أن يعرف من خلفه, لا يجامل لغرض, ولا يتقي شاهداً, يستقبل كلَّ من في فمه سؤال, وإن لم يكتمل, ويؤدي ما في وسعه, وزيادة,
ومنهم المقتصد من ينكفئ على قائمة صلاحياته, في حدود حروفها, ومحتوى تشكيلاتها, يجيب بمنطوقها الحرفي أي سائل, لكنه لا يزيد ليرى خللاً ما, أو عثرة ما, أو غموضاً ما, أو يراعي حاجة متفاعل ذي سؤال!!..
النوع الأول يجز الكثير الكثير عند التفكير في التعامل معه, ويبدد الكثير الكثير مما هو في تفاصيل عمله, وهو لا يحصد سوى دهشة باهتة على الوجوه, وأقداماً تتبلد عند موقع وقوفها كلما طرأ اسمه, أو أريد منه أمر, وإن كان هذا الأمر توقيعه على ورقة, أو إجابته عن سؤال, أو أخذ حق تاه منه عند تنفيذه لأحد ما في زحمة انشغالاته عن تفاصيل مهامه الملحة..!!
النوع الثاني يصل كل خيط وإن كان واهياً بمن خلف الباب, والهاتف, وعلى ورقة أمامه, وفي لمحة فكرة في شأن مسؤوليته, بل قد يزيد فيبذل أكثر مما في وسعه ليزيح عثرة, ويميط لثاماً, ويقرب منفعة تقيل عن السائل عثرة, وتضيف إليه وضوحاً, وتسلّمه مفتاحاً للطريق, تجده يقظاً في أدائه, ملهماً لوقته, متصالحاً مع مسؤولياته, موقناً بحق غيره, فاعلاً في إنجاز مصالح الناس قبل مصلحته, غالباً هؤلاء يتفانون دون أن يتكلموا, ويفعلون ما يقولون!!..
النوع الثالث ليس لأي طارئ وإن تعلّق بخطأ في التنفيذ وعليه إصلاحه، أو وقع خلل في تفسير ما عليه تفسيره فلا يسمع, ولا يوضح, تجده كالآلة ينفذ ما أمامه دون قراءة ما وراء, أو رؤية ما أمام, أو سماع من يريه ويخبره بما بين يديه, أو من له عنده حق الجواب, بابه مغلق لا يُفتح إلا لورقة تدخل, أو شخص يناول, وأذنه لا تتلقى, فهو مكبل بجملة تكاليف رسمت له على ورق!!..
فإن نظرت بين يديك, ومن أمامك, ونحو خلفك، وذهبت تتساءل أي الأنواع من هؤلاء كثر يمرون بك؟!
فإنني موقنة بأنك سوف توجه أسهم الإشارة نحو النوع الأول, والثالث من المسؤولين, ولسوف يتضح لك لماذا تتعثّر الواجبات عند الأداء في التنفيذ, ولسوف تنكشف لك كوامن كثيرة تتراكم فيها عدم المرونة في التعامل, وعدم اللماحية في الاستقطاب, وعدم الحيوية في الإنجاز, والانفصال عن ذوي الحق بالمواجهة والتفاعل, والإجابة, والحل, بل لوقفت على الإجابة الشافية الكافية عن أسباب ضياع الفرص, ومكابدة الخسارات, ورهق المراجعين, وفشل التجاوز عن خلل في التنفيذ, وأي سهو عند الإقرار, و, و, وكل النتائج السالبة التي يواجهها أيُّ ذي منفعة من حقه أن ينالها في مؤسسة ما عند تعرضه لموقف الحاجة عند مسؤول ليطرق باب أحدهما هذين النوعين من المسؤولين فيعجز!!...
لا وجهاً سموحاً, ولا رداً مباحاً, ولا ماءً قراحاً فيعود عطشاً مكلوماً..!
أما النوع الثاني من المسؤولين فقلة وربي, تجدهم مشرعي أبوابهم, مستقبلي القاصد, متيحي هواتفهم يجيبون السائل, لا يوصدون صدورهم محتملين الرهق, مشحذي عقولهم يتقبلون النقد, والمشاركة, يتسع وعيهم, فهم حريصون على معرفة النقص, والعثرة, والسؤال, في تفاصيل مهماهم وأدوارهم, فيسددون, ويقيلون, ويجيبون, بأريحية حتى إن شُغلوا في لحظة عن حاجة أحد ما, فإنهم لا يتأخرون عن وعده بالإجابة, يفعلون فينفذون..
في خبر أخير عن تعيين الأخ القدير (د. فوزي عبدالغني بخاري) ملحقاً ثقافياً بسفارتنا في كندا له الفضل في فكرة هذا الموضوع, إذ بهذا الخبر نهضت أمامي هذه النماذج القلة من المسؤولين, فحضر هو في مقدمتهم, لقد كان - وفّقه الله- من أميز من تمثل به النوع الثاني من المسؤولين في إدارة المبتعثين بوزارة التعليم، سنوات طويلة لا يكل فيها عن التفاعل الصادق, الواعي, الأريحي مع كل سائل, وحائر, ومتعثر من أبنائنا, بابه مشرع, واجتماعاته ثرية مفتوحة لكل مبتعث أو نائبه, وصدره وسيع للجميع بلا استثناء, وهاتفه يجيب, وإن لا يعرف المتصل به, حتى آخر لحظة في مكتبه بالوزارة, وهو بصمت, وهدوء, بعيداً عن الأضواء ينفذ, ويعمل ليلاً ونهاراً, ذو الخلق الدمث, فاتجهت له الأضواء, وحسن الاختيار وهو يستحق, فله منا التحية, والشكر, والدعاء, وفقه الله، وأعانه, وحفظه في مهمته الجديدة, وبارك في كل خطواته.