-1-
تؤكّد الدراساتُ المتخصِّصة أنّ الترفيه أحدُ المتطلبات الرئيسة للإنسان، وأنه من جملة حاجاته الملحّة، ومن بين المكوّنات المهمة التي تسهم في تزويده بالطاقة الإيجابية في جميع مراحله العمرية؛ لذلك عبّرت المجتمعات (حتى في أطوارها البدائية) عن حاجتها إلى الترفيه، بل سعت إلى ابتكار ما يلبّي هذه الحاجة مما تحتفظ به اليوم ذاكرة (الألعاب الشعبية) و(المناسبات) و(الفنون)، في جميع المجتمعات الإنسانية .
إنّ الترفيه بهذا المعنى نشاطٌ إنساني لا يقلّ أهمية عن جملة الأنشطة الإنسانية التي نحتفي بها اليوم في مجتمعنا، لذلك عُدّ – في العصر الحديث - أصلاً مهمّاً :
1 - في التعليم الحديث أو ما يطلق عليه « التعليم بالترفيه» .
2 - وفي الصحة العضوية والنفسية أو ما يطلق عليه « العلاج بالترفيه» .
3- وفي التربية وبناء الشخصية وتقويم السلوك.
4 - وفي صناعة مجتمع أكثر انفتاحاً، وأكثر قدرة على التعاطي مع (المدنيّة) .
ورغم الأهمية الكبيرة للترفيه في صياغة الفرد والمجتمع فإنه ما زال بيننا من يقلّل من أهمية الالتفات إليه في حوارنا الثقافي، فضلاً على أن يكون فقرة رئيسة في رؤيتنا للمستقبل، وكلما خَطَت مؤسسةٌ ما خطوة في هذا السياق طرح هؤلاء فكرة تأجيلها إلى حين بحجة (ترتيب الأولويات). وهذه الفكرة لا تختلف - فيما يبدو لي - عن محاولاتنا السابقة للتقليل من أنشطةٍ نُجمعُ اليوم على أهمّيتها: كالتعليم النظامي للبنين والبنات، وبرنامج الابتعاث، وعمل المرأة، وغيرها !
كلّ ما في الأمر أنّ فكر الممانعة طوّر وسائله وأدواته، وأضحى – في الظاهر على الأقلّ – أكثر مرونة مما سبق، فبدلاً من الممانعة الكاملة (التي ترفض الشيء لذاته كما في حالة تعليم البنات قبل عقود) اتجه إلى الممانعة المحدودة التي ترفض الشيء لأسباب منفصلة عنه، ليبدو الترفيه في هذه الحالة مقبولاً في الأصل لكنّه مفضولٌ بملفات أكثر أهمية (كالتعليم والإعلام والصحة والسكن والأمن)، وعليه يكون الأولى تأجيل الاهتمام به؛ لتوجيه طاقتنا الذهنية والإدارية والمالية بكاملها إلى تلك الملفات، وبعد الفراغ منها يمكن أن يُلتفتَ إلى الترفيه بصفته موضوعاً في (الرفاهية) لا في المتطلبات الرئيسة للإنسان .
وهذه الطريقة تفتقر إلى المصداقية من وجهة نظري؛ لأنها لا تبرز عادة إلا مع القضايا المـُختلف فيها، فمثلاً حين جدّت الدولة قبل سنوات في ملفّ عمل المرأة، طالب بعضهم بمعالجة (بطالة الرجال) أولاً ثم الالتفات إلى (بطالة النساء)، كان هذا ظاهر المطالبة، وأما باطنها (الذي يشفّ عنه النشاط في سياق آخر) فَرَفْضُ التوسّع في مجالات عمل المرأة؛ الأمر الذي يشجّعنا على أن نقول إن مطالبة بعضهم بالتأجيل استناداً إلى (الأولويات) لا تعدو كونها وسيلة (أكثر انفتاحاً) في التعاطي مع المرفوض حين تقرّر الدولة تبنّيه أو دعمه !
-2-
إنّ المطالبة بتأجيل المشروعات المهمة (لأيّ سبب كان) لا تختلف كثيراً عن المطالبة بإلغائها، فكلتاهما تفضي بنا (مادياً ومعنوياً) إلى نهاية واحدة، ألا وهي تعطيل المشروع، وتجريده من قيمته الحقيقية، وإبرازه كما لو كان شيئاً ثانوياً يمكن أن يُستبعد من الحياة وإن بصورة مؤقتة. إضافة إلى أنّ تقليص المساحة التي يحظى بها مشروعٌ ما في رؤيتنا للمستقبل سيؤثر سلباً في أجزاء أخرى لا نختلف حول أهميتها، ويمكن أن نتمثّل هذه الجزئية – على سبيل المثال - في الصلة الوثيقة بين الترفيه (بما هو صناعة) وملفات أخرى مهمّة ثقافياً واقتصادياً كالسياحة، وتوفير فرص العمل، وتحسين بيئة الاستثمار.
بإيجاز :
يتردّد الترفيه – في صورته العميقة - بين حقلين، أحدهما: الحاجة والآخر: الضرورة، ولا يمكن أن يستكمل مجتمعٌ ما خطته التنموية وهو في غفلة عن حاجاته وضروراته .
هذا فقط من حيث المبدأ، وأما التفاصيل فلها مقالة أخرى .
- د. خالد الرفاعي