سألت سيدة أمريكية تسافر إلى باريس عام 1913- ذاك النمط من السيدات الأمريكيات اللاتي ما زلن يسافرن إلى باريس عام 2013- عزرا باوند حول رأيه بغاية الفن، فأجاب باوند: «اسأليني ما الغاية من باقات الورد». كانت أوروبا تستعد للحرب، فهل كانت باقات الورد مهمة؟ ما الذي يمكن للفن أن يقدمه لنا الآن، ونحن نشهد احتمال قيام حرب أخرى؟
أعرف أن هنالك إحساسًا خفيًا ينتاب عشاق الفن بأنه ترف، ففي الوقت الذي لا تعد فيه الأفلام والموسيقى والكتب والمسرح أمتعة مصنوعة يدويًا أو عطرًا، فقد لا يعترف معظم الناس بأهمية الفن. لا أحد يشك بأنه يتعين علينا جميعًا أن ندفع للمشافي والمدارس، ولكن إن كان الحديث عن الفن فسيكون الرد أن ذلك يعتمد على السوق، ومن أراد الفن فعليه أن يدفع من أجله. إن الفن خاص ومحدد ونخبوي وقد يكون زائفًا. يُكتفى في بريطانيا بالعظام من القدماء - شكسبير وديكنز وموزارت وبوتشيني- لتغذية الاهتمام العام بالفن.
أصبحت الفنون الحديثة دائرة إعلامية، أعمالًا منقادة للمال وتواقة للجوائز، معتمدة على التسويق والترويج، الأمر الذي قد يجعل الجمهور يميز بضعة أسماء إضافية، لكنه يجعل الجميع يسخرون من المنتج. لقد شرحت كلمة «المنتَج» الأمر كله، فقد تحول الفن إلى سلعة نشك في تميزها. ينتمي الفنانون الموتى - سواء أكانوا كتّابًا أم رسامين أم موسيقيين - إلى التراث، في حين أن الفنانين الأحياء ينتمون إلى العلاقات العامة.
قد تكون الرأسمالية ناجحة في التعاطي مع الفن - كما فعلت مع الدين الذي استحوذت عليه - فهي تكره المنافسة - التي تعني تحديًا لنظامها - رغم إصرارها على حرية السوق. يعرف من لديه اطلاع بسيط على التاريخ الإنجليزي عن الصراع الكبير بين الكنيسة والدولة، وكلنا يعلم بوجود قوتين: العالم المادي والعالم الخفي، الرب والمال. حسن، لقد فاز المال في المعركة الكبرى، وليست هنالك قوة فاعلة في الغرب تتحدى تعاليم الرأسمالية. وعبرت الكنيسة ظاهريًا، رغم كل إخفاقاتها، عن احترامها لنظام مختلف من القيم رحبت به مارغريت تاتشر لأنه «ليس هنالك بديل».
إن الفن هو نظام مختلف من القيم، لكنه يخذلنا باستمرار، ينتابنا الشك في وجوده، لكنه يترك لنا آثارًا من الجمال. يعترينا شعور بأنه ليس هنالك أكثر مما يمكن لعالم المادة أن يقدمه للحياة، وأن الفن هو دليل، إشارة، تحول في أحسن حالاته. لسنا بحاجة للإيمان به، لكن يمكننا تجربته. تفترض التجربة أن أساس الثقافة العامة هو واقع جزئي فقط، وهذه معلومة مهمة يقدمها لنا الفن.
حين تستغرق وقتًا في قراءة كتاب أو الاستماع إلى الموسيقى أو النظر إلى لوحة، فإن أول ما تفعله هو تحويل انتباهك إلى داخلك، وسيتعين على العالم الخارجي، بكل مطالبه، الانتظار. حين تبدأ بسحب طاقتك من العالم، يبدأ الفن بالوصول إليك بطاقاته الخاصة المختلفة جدًا.
يبدأ التركيز والإبداع المستخدمان في صنع العمل الفني باختراقك. ولا يعني هذا أنك ستستعيد طاقتك، كما يحدث إن نمت جيدًا أو في أيام الإجازات، لكنه يعني أنك ستشحن بطاقة مختلفة كليًا. حين أقرأ لهاييني أو هيوز، فلست أقرأ رأي شاعر ما في العالم، لكنني أدخل عالمًا مختلفًا، عالمًا مبنيًا على أسس مختلفة منذ البداية.
«من الصعب معرفة الأخبار من خلال القصائد، لكن الناس يموتون على نحو يثير الشفقة كل يوم لافتقادهم لما يوجد هناك» (وليم كارلوس وليمز).
يحمل عالم الفن - مهما تنوع - ما ينكره العالم المادي بوضوح، الحب والخيال، إذ يُخلق الفن منهما، من الحب المغامر المتقد للعمل نفسه، كما لو أنه ليس هنالك شيء آخر، ومن القوى الخيالية التي تخلق شيئًا جديدًا من المادة الوضيعة. لا تحصل التجارب الفنية على تمويل ضخم من الدولة، أو رأسمال مغامر أو قروض بفائدة عالية، بل تنجز حين يلتقط أحدهم قلمًا أو فرشاة أو يجلس إلى البيانو أو يحمل قطعة من الصلصال ويغيرها إلى الأبد.
تفضل ثقافة المال الأرقام، الدخل الصافي والمبيعات وردود الفعل، إنها تريد عائدًا لاستثمارها وترغب بمزيد من المال. ولا يمكن للفن أن يقدم عوائد واضحة، فمعدل المقايضة هو الطاقة من أجل الطاقة، والحماسة من أجل الحماسة. إن الوقت الذي تمضيه مع الفن هو الوقت الذي يقضيه معك؛ ليست هنالك طرق مختصرة ولا طرق سريعة، هنالك التجربة فقط.
- ترجمة/ بثينة الإبراهيم