كان لألف ليلة وليلة أثر كبير في الأدب العربي والآداب العالمية، وهذا ربما يحتاج إلى دراسات معمقة كثيرة للوقف عليه، وكانت أشارت إلى جانب منه سهير القلماوي في كتابها عن ألف ليلة وليلة، عندما رأت أنه يكفي أن نعرف أن الليالي طبعت أكثر من ثلاثين مرة مختلفة في فرنسا وإنجلترا في القرن الثامن عشر وحده، وأنها نشرت نحو ثلاثمئة مرة في لغات أوربا الغربية منذ ذلك الحين لنتصور إلى أي حد تغلغل هذا الأثر في نفوس هؤلاء القراء، وبخاصة الأدباء منهم الذين حملوا شخصيات الليالي، وبخاصة شهرزاد، الكثير من القضايا الرومانسية.
وقد اعتنى الشعراء العرب بكثير من الشخصيات التي وردت في الليالي، ولكن عنايتهم قد تركّزت بشكل واضح وجلي على شخصية السندباد بوصفه رمزًا من رموز مورثنا الشعبي، ونموذجًا عربيًا جسد من خلاله الإنسان طموحاته ورغباته، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا مع علي عشري زايد، إنه من بين الرموز والشخصيات الأكثر استحواذًا على اهتمام شعرائنا، فما من ديوان نفتحه من دواوين هؤلاء إلا ويطالعنا وجه السندباد من خلال قصيدة أو أكثر وما من شاعر إلا وقد اعتبر نفسه سندباد في مرحلة من مراحل تجربته الشعرية.
وتقدم لنا الليالي السندباد البحري، ابتداءً من الليلة الثامنة والخمسين بعد الخمسمئة التي يبدأ بها سرد أخبار أسفاره على جلسائه، فيظهر السندباد في صورة بطل أسطوري يهوى المجازفة والمغامرة، حتى تبدو وكأنها هاجسه الذي يحركه في طلب الأسفار البحرية الطويلة بحثاً عن الأماكن الغريبة والجديدة التي لم تطأها قدما إنسان. ولكن لكل تلك الرحلات التي قام بها السندباد أهداف تتجلّى في البحث عن المال عبر تجارته، وكذلك في إشباع فضوله وحبه للبحث عن المجهول، وأخيراً حب المغامرة.
إن هذه الأهداف، وهذه الميزات التي تمتعت بها شخصية السندباد جعلت منه عنصر شد للشاعر المعاصر وأغرته في توظيف هذه الشخصية في نصوصه الشعرية، كما نجد عند السياب وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي، ومن تلاهم من الشعراء، فقد اتخذوه رمزاً للتعبير عن رؤى الشاعر لنفسه ولواقعه، وقناعاً لتعبير الشاعر عن هواجسه من ناحية وعن هواجس أمته وواقعها من ناحية ثانية.
يعد صلاح عبد الصبور من الشعراء الرواد الدين وظّفوا هذا الرمز مسقطينه على الواقع المعاصر، وهذا ما يمكن أن نلمحه في قصائد عدة منها قصيدة (رحلة في الليل) متخذاً من السندباد قناعاً، وحارفاً رحلة السندباد البحرية لتصبح عند عبد الصبور رحلة ليلية، لكن من دون أن يتخلّى عن فكرة السفر بدلالته الدائمة على البحث، يقول:
(في آخر المساء يمتلي الوساد بالورق/ كوجه فأر ميت طلاسم الخطوط/ وينضح الجبين بالعرق/ ويلتوي الدخان أخطبوط/ في آخر المساء عاد السندباد/ ليرسي السفين/ وفي الصباح يعقد الندمان مجلس الندم/ ليسمعوا حكاية الضياع في بحر العدم.))
ولا يخفى هنا إسقاط هذه الرحلة على الواقع العربي، فالمساء الحافل بالبؤس والألم والسواد والدخان، هو معادل موضوعي للواقع العربي، ولكن ما يميز عبد الصبور في توظيفه للسندباد أنه لا يترك التشاؤم يسيطر عليه، بل دوماً ما يتجه نحو التفاؤل في تلك الرحلات القارئة للواقع، فالشاعر دوماً ينشد التجديد والبحث عن الأمل في أسفاره:
في الفجر يا صديقتي تولد نفسي من جديد/ كل صباح أحتفي بعيدها السعيد
ما زلت حيًا! فرحتي! ما زلت والكلام والسباب/ والسعال....
ومن الشعراء الذين وجدوا في شخصية السندباد معادلاً موضوعياً لتجربتهم تبرز تجربة الشاعر خليل حاوي في قصائد عدة منها قصائد: (وجوه السندباد، والسندباد في رحلته الثامنة، والبحار والدرويش وغيرها) وحاوي من الشعراء الذين استطاعوا تشكيل دلالات جديدة لهذه الشخصية من خلال توظيفها في خدمة مقولات جديدة، أهمها مقولات الانبعاث وعدم الاستسلام للموت ولكن من خلال التجربة الشخصية للشاعر، فيصبح السندباد هنا ناطقاً مباشراً باسم الشاعر وينوب عنه في النص الشعري، فتصبح أسفاره هي أسفار الشاعر، وتمنياته وأحلامه هي تمنيات الشاعر وأحلامه، من هنا يصبح السندباد رمزاً للبحث الدائم المتجدد، يقول:
ولم أزل أمضي وأمضي خلفه
أحسه عندي ولا أعيه
أود لو أفرغت داري عله
إن من تغويه وتدعيه
أحسه عندي ولا أعيه
ثم لا غرابة أن تصبح بشارة الشاعر للعالم هي بشارة شعرية، هي كل ما يبتغيه الشاعر، إنها نبوءة جمالية مثالية تسعى لتشكيل العالم تشكيلاً جمالياً، يقول:
عدت إليكم شاعرًا في فمه بشارة
يقول ما يقول
بفطرة تحس ما في رحم الفصل
تراه قبل أن يولد في الفصول
هذه إشارة إلى رمز تراثي (السندباد) استطاع إغواء الشعراء المعاصرين فوظفوه في بناء النص الشعري، ولا شك إن هذه الإشارة ربما تغوي القارئ للبحث عن أماكن قصية كثيرة تحتاج إلى توسع وتفصيل لا يسعف المقام في تفصيلها.
- د. طامي دغيليب