د. صالح بن سعد اللحيدان
يصعب القول كثيرًا على المهتمين بالدراسات العقلية العلمية ذات الطابع الموهوب.. يصعب كثيرًا الوقوف على سر تمكن سيبويه مثلاً أو البخاري أو منصور بن المعتمر أو ابن قتيبة من الوصول إلى التجديد وكمية السبق الجيد، لكنهم يكادون يذهبون إلى القول إنهم يملكون طاقة حرة لا شعورية نابهة، كما يملكون طاقة دائمة نحو ماذا يريدون؟ وماذا يريد الناس منهم؟
وهذا وذاك محفزان نحو الاجتهاد العقلي؛ ليتجاوزا العمر الزمني؛ ليكون لهم ما أراد الله لهم أن يكون لخير الناس على أيديهم من نبش أبكار الآثار، وتحليل مراد النص؛ ليقع منهم الاجتهاد النوعي المطلق والاجتهاد النوعي المقيد، سيان هذا وذاك؛ كلاهما فيه خير، والخير المديد.
والذين أشرت إليهم (الثلاثة) إنما هم نموذج من العديد، مروا خلال العهود في أحايين سلفت إن صفا الذهن ودقة الملاحظة وعمق الفهم السليم، وإن خلا القلب من الضعف والتردد، وخلت النية من حب الذات، وإن حسن الخلق مع جودة التلقي والأناة الواعية والصبر المكيث.. كل ذلك كان أولئك على حال مما ذكرت عنهم.
ذلك أنني أمكث مليًّا بين قراءة وقراءة في أساسيات نباهة الفهم وقوة الملاحظة وسرعة البديهة الصائبة.. فكنت من خلال تحليلي المتأني أجد أنهم قد بلغوا حالاً يمكن أن تتكرر خلال العصور إذا وُجد الجو وصفت النية عند من يريد الحذو حذوهم، لا على سبيل التقليد، لكن على أساس إضافات يفعلها المرء اليوم كما فعل من كان قبلهم؛ فأضاف نوعًا لم يكن من قبل.
وعلم اللغة وعلم أصول الحياة العملية كل ذلك إنما هو أصل للعلماء، علماء اللغة والحديث والنحو والثقافة على وجه مطلق.. تلك الثقافة المبنية على التجرد المكين.
ولست بمتعد عن الحق إذا بيّنت شيئًا ذا بال عن نتائج كنت آخذها من كل ترجمة تكون بين يدي، خاصة تراجم المجددين، لكن تمهل بعد تدبر ما تقرؤه.. تمهل حتى يستقر لديك المراد، كل المراد من هذه الأسس التي لعلها تساهم فيما تصبو المجامع اللغوية والهيئات العلمية ومراكز البحث فيما تصبو إليه، في حين يريد النابهون فيه - لعلهم أو بعضهم - أن يسبقوا إلى رأي جديد أو نظر جديد لم يكن لهذا الرأي أو لذلك النظر سابق من قول.
وعلى هذا الأساس أبين ما يأتي:
أولاً: حينما يراد تحرير مسألة علمية أو لغوية أو مسألة نقدية لتقويم عمل ما فإنه يقطع الوقت، ولا بد بسعة البال؛ فينظر ما يدور كافة حول هذه المسألة من آراء واجتهادات واستشهادات، ثم هو يعمل عقله في بذل رأي محرر جديد.
ثانيًا: هنا لا يحسن أن يخطئ أحد غيره فيما ذهب إليه ذلك الغير، لكنه يقدر له سبقه إلى هذه المسألة، ويزيد عليها حتى لعله يتجاوزها بسابقة رأي أو نظر سديد.
ثالثًا: الحق وأنت تقرأ لمن سلف من النابهين، وتطالع مرارًا ما كتبه كثير منهم، تجد تجاوزهم عن السطو وكثرة الهوامش وتكرار النقل؛ إذ يرون هذا وصمة عار وإلغاء للعقل السليم.
رابعًا: كذلك الحق أقول إنك تقدر لهم بركة العمر مع طول المصنفات التي قاموا بها. وليس كثرة مصنفات الواحد منهم هي ما يلفت النظر لكن ما يلفته حقًّا بعد دراسات أساسية نفسية وعقلية وعلمية.. ما يلفت النظر هو عدم التكرار وترك الاستطراد ونبذ إنشاء الكتابة إنشاء.. إنما هو رسوخ العبارات القوية، وجلال المعنى الثقيل، وقوة الاستشهاد الصحيح من مصدره الصحيح، ثم يأتي بعد ذلك طرح الرأي الذي لم يكن من قبل.
خامسًا: أقول تظن وأنت تطالع ما كتبه القوم خلال القرون الثاني إلى السابع من الهجرة المباركة.. تظن أن الواحد منهم يخال نفسه أنه هو السيد المجدد فيما يدونه ويعالجه، لكن ليس كذلك، بل هو يبذل الرأي ويطرح النظر ويجعل الباب مفتوحًا؛ فلعله أخطأ، ولعل عقلاً أوسع من عقله يجلب ما لم يخطر له على بال. وهذه واحدة كبيرة وقفت عليها، تدل على سمو الخلق وصلاح المقصد.
سادسًا: في أساسيات علم اللغة عند الكسائي أو سيبويه أو عند أبي علي الفاسي أو عند الفراء أو عند ابن جني تجد شدة التحري عند بذل الاجتهاد اللغوي أو الاجتهاد النحوي حينما يريد الاستشهاد بنص أو ببيت شعر أو حكمة أو مثل، أو عند ذكر لهجة قوم.
وقد جرهم هذا الاجتهاد العقلي العميق إلى الوصول إلى حقيقة الإضافات الحسنة؛ ولهذا حرروا اللغة وحرروا النحو من قيد النقل وتكرار القول.
وإذا كان قولي هذا في هذا المعجم يحتاج إلى الاستشهاد فطالع - على سبيل المثال - بصدر رحب ما كتبه ابن عساكر في (تاريخ دمشق)، أو ما حرره ابن عقيل في سياسته اللغوية النحوية في شرحه (الألفية) لابن مالك.
وهذا تجده عند السيرافي في شرحه كتاب سيبويه، ولعلك تجد بالغ الموهبة عند ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب)، أو كتابه الآخر (عيون الأخبار).
ولعلي لا أبالغ في القول إذا نظرت إلى أبي الحسن الأشعري في كتابيه (مقالات الإسلاميين) و(الإبانة عن أصول الديانة).
وهذا ما سلكه ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل)، وتجد هذا عند ابن قيم الجوزية في كتابه (طريق الهجرتين).
لا جرم أنني إبان الطفولة الباكرة كنت أظن الواحد من هؤلاء مجمعًا لغويًّا وحده، أو أنه مجمع علمي وحده، أو أنه مجمع ثقافي بمفرده.. لكن بعد أن شببت عن الطوق أدركت ما دونت بعضه هنا؛ فلعله يفتح المجال، أو لعله ينبش الإضافات من جديد.