د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تتأسَّس هذه المقالة على حقيقةٍ لا يختلف فيها عاقلان، وهي أنه لا يمكنك أن تُطوِّر من قدراتك أو ترتقي بإبداعك دون أن تصغي إلى النقد الرصين الهادف، وأنه ينبغي عليك أن تتقبَّل سهامه بصدرٍ رحبٍ مهما كانت قاسيةً أو حارقة، وأنَّ المكابرة في ذلك، وتجاهل هذه الممارسات النقدية التي تتلمَّس مواطن الإخفاق والضعف في إبداعك، والتوهُّم بأنها مجرَّدُ محاولاتٍ للتحطيم، أو صورةٌ من صور الحسد، أو لتصفية الحسابات الشخصية، كلُّ ذلك لن يفيدك في شيء، وستظل تراوح المكان نفسه دون تقدُّم، بل سيزيدك جهلاً بنقاط قوتك ومواضع ضعف، وسيمرُّ الوقت ويتطوَّر المبدعون وتبقى أنت متقوقعاً، غارقاً في أحلامك، متشبثاً بأوهامك في تطوير نفسك وقدراتك.
غير أنَّ الإشكالية التي تواجهنا هي أنَّ معظم النقد الذي نصغي إليه -إن لم يكن كله- أضحى مجرَّد ثناءٍ واحتفاء، وعبارةً عن تطبيلٍ وتزمير، فتجد الناقد يعلن أمام الملأ إعجابه الشديد وثناءه البالغ بما أبدعه الكاتب من مقالةٍ أو قصةٍ أو قصيدة، ويزفُّ إليه التهاني بهذا الإبداع، حتى لو كان العمل في غاية السوء ومنتهى الرداءة، وأظنه يفعل ذلك لأسباب؛ أهمها الرغبة في مجاملة الكاتب، والسعي إلى توثيق العلاقة به، والحرص على عدم خسارته، ظنَّاً منه أنَّ بيان مواطن ضعف صاحبه قد يؤدي إلى تأزُّم العلاقة وتوتر الصحبة.
ومن الأسباب التي تدعوه لفعل ذلك تحاشي وصف نفسه بالحسد، والبعد عن الاتهام بتصفية حسابات شخصية، توهماً منه أنَّ هذه الأمور من لوازم النقد، ومنها محاولة التسويق لنفسه، والدعاية لنقده، والظهور بمظهر الناقد ذي الأخلاق اللطيفة والتعامل الرقيق، مفترضاً أنَّ العامَّة سيحبونه لأجل ذلك، وأنَّ الكُتَّاب سيُقبلون عليه بأعمالهم الإبداعية لينالوا نصيبهم من هذه المدائح والمجاملات، ونضحي أمام مسرحيةٍ يُطبِّل فيها الناقد، ويرقص منها المبدع، ويصفق لها الجمهور الغافل.
إنَّ المتأمل في مشهدنا الثقافي يلحظ غلبة هذا النوع من النقد، حيث تُدبَّج فيه المدائح، وتُطرَّز فيه الاحتفاءات، وإن كان من إشارةٍ لضعفٍ فهي إشارةٌ على استحياء أو تلميح خفي بعيد لا يكاد يلحظه أحد، وهكذا تتضخَّم الثناءات، وتتكاثر المجاملات، والضحية في النهاية هو ذلك الكاتب المسكين الذي ظنَّ أنَّ ما يُقدِّمه نوعاً من الفتوحات الإلهية والإبداعات الربانية التي أفاضها المولى عليه، وليت الأمر يتوقَّف عند هذا الشعور، بل يتجاوزه إلى أن يُصدِّق نفسه، فيتجرأ بقلمه على كلِّ تخصص، ويجعل إصدار الكتب هواية من هواياته، بل تجد له في كل سنة كتابين أو ثلاثة، وهكذا يفعل كلُّ مَن انخدع بهذا المديح الزائف والمجاملات المخجلة، حتى يصبح مشهدنا الثقافي ضعيفاً متهافتاً، مدعاةً للاستهزاء، ومحطَّاً للسخرية.
ثم هناك الإشكالية الأخرى لدى كثيرٍ ممن يصفون أنفسهم بالنقَّاد، وهي قلة الثقافة وضعف المعرفة وهشاشة التأسيس العلمي والفكري، ومثل هذا النوع من النقاد لا يفقه كثيراً مما يقوله المبدعون، ولا يفهم نصوصهم وإبداعاتهم، ولهذا تراه يسعى إلى إخفاء هذا الجهل بالحضور الدائم، والتعرُّض لأعمال الآخرين، ومحاولة نقدها وتقويمها، توهُّماً منه أنَّ مثل هذه المواقف والتصرفات كافيةٌ لتغطية ضعفه وإخفاء جهله، ويكثر عند هذا النوع الثناء والمديح وإطلاق عبارات الإعجاب المبالغ فيها، شأنه شأن النوع الأول؛ لأنه ليس لديه قدرةٌ على تبين مناطق الضعف أولا، وحتى يسلم من تبعات التعليل والتدليل والتحليل التي تكون مطلوبةً بصورة أكثر وضوحاً وأشد َّإلحاحاً حين يميل الحكم النقدي إلى رصد السلبية في العمل، وعدم الإعجاب به، وبيان شدة الإخفاق فيه.
إنَّ على نقادنا اليوم مسؤوليةً كبرى فيما يقومون به من ممارساتٍ نقديةٍ للأعمال الإبداعية، خاصَّةً إذا منحهم الجمهور الثقة؛ لأنَّ النقد أمانةٌ ينبغي أن تُؤدَّى بإخلاصٍ وأمانة، ولأنَّ الناقد حين يخون هذه الأمانة فإنه يتسبَّب في ضررٍ بالغٍ في المشهد الثقافي، إذ إنه بذلك يشجع على انتشار الأعمال الرديئة، ويخدع بهذه الأحكام الجمهورَ الذي يظن أن هذه الأعمال نماذج للجودة، فينخفض الذوق وتضعف المواهب، ثم هو بعد كلِّ ذلك يسيء إلى سمعته وسمعة هذا الفن الجميل.
إنَّ النقاد ركنٌ أساسٌ من أركان مشهدنا الثقافي، يقوى بقوتهم ويضعف بضعفهم، بل إنَّ تميز الإبداع وتطوره ورقيه مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمدى إخلاصهم وأمانتهم وقوتهم، وبُعدهم عن المجاملة، والالتزام بالحق والصدق في تقديم أحكامهم النقدية.