تقديم المترجم: هنا دراسة مشتركة للبروفيسور يورام ميتال والباحث موشيه ألبو نشرت عام 2014، قسم دراسات الشرق الأوسط، جامعة بن غوريون في النقب. وستشكل هذه الدراسة أحد فصول كتاب مترجم بعنوان «الأزهر والسياسة» (تحت الإعداد) أخطط لصدوره في عام 2018 بحول الله:
وطوال القرن الـ20، سعت المؤسسة الدينية المصرية إلى الحفاظ على ثقافة المجتمع الإسلامية؛ ولكن أعيد، إلى حد ما، بناء الثقافة بطريقة تلازمت بسلاسة مع متطلبات العصر الحديث، حيث جرى دمج أشكال جديدة للتعبير في الأنواع التقليدية وأعطيت الأشكال القديمة تفسيرات جديدة. ولكونه بني على القيم السلفية، قدم هذا الانبعاث الفكري الإسلامي أيديولوجية مضادة للثقافة الغربية. كما سعى العلماء الرسميون إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضد خصومها في الداخل والخارج، وسعوا إلى إحياء التراث الثقافي العربي- الإسلامي؛ حتى يتسنى له مساندة المجتمع والثقافة الحديثة، وجذب جمهور متعلم جديد. (12)
وواصل الشيخ محمود نشر هذه الأيديولوجية في الجيل التالي. وبالطبع، كان الإسلام، بالفعل، ركنا مركزياً من أركان المجتمع المصري الحديث؛ ولكن ناضل محمود من أجل تعزيز هذا الرابط بناء على فرضية أن الولاء الأساس هو للمجتمع الإسلامي. وقَبِلَ محمود فكرة حسن البنا عن «وطنية الحنين»؛ أي حب، والتعلق بـ، والتضامن مع، والتعاطف مع مصر. وعلى نحو مماثل، آمن محمود بالعلاقة بين الوطنية الإقليمية وبين الإيمان وفقا للحديث النبوي «حب الوطن من الإيمان». وباختصار، كان الشيخ محمود وطنياً مخلصاً ولم يجد أي تناقض بين المشاعر الوطنية وبين القيم الإسلامية. (12)
وأثبتت كُتب الشيخ وفتاواه العديدة أنه عالم إسلامي من الدرجة الرفيعة. (14) ولم يمنعه موقعه على رأس المؤسسة الدينية، التي كانت جزءا لا يتجزأ من النظام الحاكم، من انتقاد النخبة الحاكمة؛ بل بلغ الأمر، في العديد من الحالات، حد المواجهة المباشرة وتحدي رئيس مصر المستبد. وقد جرى تعيين محمود إماما أكبر (شيخ الأزهر) بمرسوم جمهوري، وكان يتسلم راتباً من الدولة. وقام بنشر برنامجه الإسلامي الخاص في المجالات السياسية والعامة من خلال الاستفادة من الموارد والنفوذ المتوفر تحت تصرفه باعتباره شيخا للأزهر. وكما سنبين أدناه، لم يكن الشيخ محمود يتردد مطلقاً في مهاجمة خصومه في الساحة السياسية لكي يحبط مثلاً سن تشريع علماني، أو لكي يدعو إلى إصلاحات إسلامية حتى عندما تتناقض مواقفه مع مواقف الحكومة التي كان يعدّ جزءاً منها. وخلال السبعينيات، اتخذ الشيخ محمود مواقف جريئة ضد السلطة وانطبقت عليه المقولة الشهيرة «قول الحقيقة للسلطة»؛ ولكن نقده وبرنامجه كانا بالكاد مبنيين على القيم العالمية. وبالتأكيد، لم يتفق مع نمط المثقف، حسب تصنيف الفيلسوف والمنظر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي صاحب تلك المقولة. (15) وبالفعل، عزّز محمود الهُوية الوطنية الرسمية. وبشكل أكثر تحديدا، صادق على برنامج النظام الرسمي. وكجزء من المؤسسة الحاكمة، ناضل ضد أولئك الذين يطمحون إلى تقويض النظام السياسي (خاصة الشيوعيين). ومن ناحية أخرى، طوّر الإمام برنامجه الإسلامي في المجالات السياسية والعامة، من خلال الاستفادة من الموارد والنفوذ الموجود تحت تصرفه بصفته شيخا للأزهر.
مأسسة الإسلام
برز كبار رجال الدين في الأزهر خلال السبعينيات كلاعبين مهمين على المشهد المصري مع سعي النظام إلى الحصول على شرعية دينية لسياسته الجديدة المتمثلة في التخلي عن السياسة الاشتراكية الناصرية واستبدالها باقتصاد السوق المفتوح والقيام بتحول سياسي جذري نحو الولايات المتحدة. وقدمت هذه التغييرات الهائلة فرصة كبيرة لصالح المؤسسة الدينية، لاتخاذ خط مستقل بشأن العديد من القضايا المتشعبة. (16)
ومع هذه الخلفية، جرى تعيين محمود وزيراً للأوقاف في عام 1971. ومن ثمّ، أصبح، بشكل غير مباشر، المشرف الحكومي على الأزهر. وبهذه الصفة، قام بتخصيص الأموال اللازمة لبناء مساجد ومؤسسات تعليمية دينية جديدة. ثم جرى اختيار محمود ليصبح شيخ الأزهر في 27 مارس 1973؛ وهي الوظيفة التي اعتبرها ذروة مساره المهني. وبعد فترة وجيزة من تولي هذا المنصب، أي في يوليو 1974، اندلعت أزمة حادة بين الحكومة وبين شيخ الأزهر الجديد حول القرار الرئاسي رقم 1098. فوفقا لهذا المرسوم الرئاسي، أصبحت مؤسسة الأزهر رسمياً تحت إشراف وزارة الأوقاف التي سميت «وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر»؛ وهي ضربة كبيرة لاستقلال تلك المؤسسة وإمامها الأكبر. (17) وردا على ذلك القرار، قدّم محمود استقالته إلى الرئيس السادات، ونتج عنها مناقشة عامة ساخنة؛ بل قام بعض أنصار الشيخ برفع دعوى قضائية ضد الرئيس ووزير الأوقاف بهدف إلغاء المرسوم. وأجبر النقاش الحاد، فضلا عن شعبية محمود الجارفة، السادات على التراجع عن القرار وعودة الإمام الأكبر إلى منصبه. أكثر من ذلك، أصبح مكتب شيخ الأزهر يعادل وزارة في الحكومة كترضية من السادات لمحمود. (18)
قفزة كبيرة في عدد المؤسسات التعليمية الأزهرية خلال عهد الشيخ عبد الحليم محمود
ومنذ البداية، استخدم محمود موقعه لتعزيز سمعة الأزهر ومكانته في المجتمع المصري. وتحت قيادته تحسّن المركز المالي للمؤسسة؛ وهو ما سمح بفتح مدارس ابتدائية وثانوية لقطاعات جديدة. وفي عهد محمود، قفز عدد المؤسسات التعليمية الأزهرية من 212 إلى 1273، ووصل عدد الطلاب إلى 89.744. وبالإضافة إلى ذلك، وبفضل الأساس الذي وضعه محمود، تجاوز عدد الطلاب المقيدين في الأزهر 300.000 طالب بحلول مطلع الثمانينيات. وكان توسع الميزانيات الحكومية من الأسباب الرئيسة وراء هذا النجاح؛ وذلك بسبب الضغط المستمر على وزارة المالية، وعملية جمع تبرعات ضخمة في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة من المملكة العربية السعودية.
- د. حمد العيسى