د. محمد عبدالله العوين
بلغ مني الداء مبلغه وتمكن حتى أيقنت أنه لا بُرأ لي منه؛ ففرحت باختياري أميناً مساعداً لأمين مكتبة المعهد العلمي وقت الاستراحة الطويلة بين الدروس، وأحياناً بعد العصر لاستقبال هواة القراءة أو لترتيب دفعة كبيرة من الكتب قدمت لتوها من الرئاسة العامة للمعاهد العلمية التي كانت سخية جداً في مد مكتبات المعاهد بما تحتاجه من مختلف المعارف، وإن كانت تميل في مجملها إلى الاهتمامات الشرعية واللغوية والتراثية، فكنت كمساعد لأمين المكتبة أدون أسماء المستعيرين، وأحضر الكتاب لمن يطلبه، وأجد في هذه المهمة لذة لا توصف؛ لأن لدي من الصلاحيات ما يمكنني أن أستعير ما يروق لي بلا تحديد عدد معين، ودون حساب دقيق لوقت الإعادة.
وفي الوقت نفسه عرض علي أحد الفضلاء من شباب مدينتي الصغيرة من مثقفيها النابهين المتطلعين إلى المعرفة أن أتولى البيع في مكتبة ثقافية تجارية أنشئت بمساهمة عامة من بعض أبناء المدينة بغرض تجاري بحت من قبلهم وبغاية أيدلوجية صحوية من أصحاب الفكرة الرئيسيين فوافقت على الفور وبدون تردد؛ فعلاوة على المكافأة التي لا تتجاوز مائة ريال ستتاح لي الفرصة لمزيد من القراءة واقتناء ما يمكنني أن أقتنيه؛ إما بالمكافأة نفسها أو ديناً على مرتب الأشهر القادمة حين لا أجد مناصاً من اقتناص نصيبي من دفعة جديدة قادمة إلى المكتبة اجتهد في اختيارها عدد من الشباب المؤسس للمكتبة، وبعد أن اكتسبت بعض الخبرة في المرحلة الثانوية أصبحت أتولى زيارة مكتبة الدخيل في شارع الخزان ومكتبة دار اللواء في شارع الوزير ومكتبة الحرمين للوهيبي في عمارة الدغيثر بالبطحاء؛ فأشتري ما يروق لي أن يقرأه الناس أو ما أود أن يقرأه هواة الاطلاع من كتب فكرية وأدبية وتاريخية وغيرها، وقمت بزيارة للشيخ صالح العجروش مدير مؤسسة الجزيرة - رحمه الله - للحصول منه على منح المكتبة تخفيضاً أعلى ونسخاً أكثر من الجزيرة التي كانت تصدر - آنذاك - أسبوعياً - وأوزعها في المكتبة وعلى طلاب المعهد العلمي وفق قائمة طويلة بأسماء المشتركين، ومعها أيضاً أوزع مجلات العربي والنهضة والمجتمع والبلاغ والدعوة واليمامة وغيرها.
أما المكتبة العامة التابعة لوزارة المعارف فكانت مصدر التنوير والتثقيف وبناء العقول الشابة في المدينة الصغيرة؛ لما تضمه من ذخائر المعرفة ولما تتزود به من المجلات المتنوعة والصحف المختلفة التي تصلها بحسب صدورها بدقة تثير الإعجاب، حتى إننا كنا الرواد المنتظمين من الشباب في العطلة الصيفية ننتظر في الصباح الباكر عند باب المكتبة قبل أن يبدأ وقت عمل المكتبة الرسمي انتظاراً للرجل العجيب المرح خفيف الظل المسمى «عجيب» كي يفتح لنا الباب؛ فنتوزع بصورة تلقائية في مواقعنا المعتادة التي أصبحت معلومة لنا، وكأن كل واحد وضع اسمه على كرسيه فلا يمكن أن يجلس فيه غيره.
أما في الجامعة؛ فلم تزد مكافأة الكلية في منتصف التسعينيات الهجرية على مائتين وعشرين ريالاً؛ فكان نصفها يذهب في شراء الكتب أو المجلات والصحف، ولكن أنقذني التحاقي بالعمل في الجزيرة محرراً أدبياً بمكافأة سخية من رئيس التحرير الأستاذ الرائد خالد المالك - متعه الله بالصحة والعافية - ومقدارها ألف وسبعمائة ريال؛ فكانت دافعاً كبيراً لزيارة مكتبات الرياض الجميلة؛ كاللواء التي تتميز بالتنوع للأستاذ عبد العزيز التويجري ودار العلوم المتميزة بحداثتها وميلها إلى الجديد للأستاذ عبد الله العوهلي - رحمه الله.
ولكن الأمر لم يقتصر على الرياض ومكتباتها؛ فبعد أن جمعت مبلغاً يسيراً من المال قمت بزيارات لمكتبات دمشق والقاهرة، وتعرفت فيها على فكر جديد مختلف وشخصيات أدبية وعلمية، ولا يمكن إلا أن أدعو بالرحمة للحاج «محمد مدبولي» صاحب تلك المكتبة التي عرفت باسمه في شارع طلعت حرب الذي كان يخصني بعناية وثقة ويدخلني إلى الجزء الخاص من مكتبته، ففيها جزء ظاهر على الرصيف الواسع الممتد وجزء في الواجهة الجميلة الأخاذة ثم دوران مليئان بالأرفف المرصوصة؛ ولكن ثمة جزءاً آخر خفياً مستتراً خلف المكتبة لخاصة الخاصة، ولا يمكن أن يصل إليه إلا المريدون من باب جانبي خاص.
يتبع