د.عبد الرحمن الحبيب
بعد التسريبات الأخيرة لويكيليكس، تعود مجدداً لتصبح علة مزمنة لأمريكا، مما دعا الأخيرة لتكرار اتهامها بالتآمر لصالح روسيا، لا سيما أنها قلما تتطرق لوثائق روسية سرية بل أنها تكشف وثائق تبرئ روسيا من العديد من الاتهامات مثل نفيها لتورط روسيا في الانتخابات الأمريكية..
في خضم ذلك يبدو الروس قليلي التعليق أو صامتين على طريقة: «إذا رأيت خصمك يتخبط فلا تقاطعه!» تسريبات ويكيليكس الأخيرة أبرزت ادعاءات بقيام وكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي أي) بقرصنة واختراق أجهزة إلكترونية تستخدم في الحياة اليومية للأفراد العاديين، مثل الكمبيوتر والهواتف الذكية وأجهزة التلفاز، والتجسس عليها والاستماع إلى محادثات ومشاهد..
«كنت أسخر من والدي قبل سنوات لأنه كان يضع جزءاً من شريط لاصق أبيض اللون فوق كاميرا حاسوبه المحمول، ولكن الآن تعود هذه الأمور لي مرة أخرى». هذا ما قاله سامويل بيرك المختص بالتقنية مؤكداً أن أي جهاز يمكن وصله بالإنترنت يمكن استخدامه في التجسس، والوسيلة الأفضل لمنع ذلك هو بقطع اتصال الجهاز بشبكة الانترنت.. (سي إن إن).
ويكيليكس التي صار لديها ملايين الوثائق السرية المسربة، أكثرها إثارة ما يخص وكالة الاستخبارات الأمريكية، صارت محط جدل عالمي حول مصداقية وثائقها والدوافع وراء تلك التسريبات.. هل ويكيليكس مؤسسة مدنية يهمها الشفافية وحقوق الإنسان في الاطلاع على المعلومات، أم منظمة مجندة لصالح جهات استخباراتية؟
إذا بدأنا بالطرح التحليلي، فإن الرأي السائد هو أن تلك التسريبات واقعية يمكن توقعها ولكن يصعب التثبت من مصداقيتها وصحتها، فضلاً عن صعوبة حصول أفراد عليها رغم أن أي شخص ماهر في التقنية يمكنه عمل قرصنة على أجهزة المخابرات لكن ليس بهذا الحجم الضخم الهائل، حسبما ذكر جيمس لويس، محلل الشؤون الاستخباراتية في مركز الدراسات الإستراتيجية والاستخباراتية الذي لفت لاحتمال ضلوع الحكومية الروسية في ذلك، لأن الوصول لمثل هذه المعلومات يتطلب قدرات قرصنة ضخمة، ولابد من وجود دعم كبير لها (سي إن إن).
أما مايكل هايدن، المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية فيقول: «أنا الآن قريب جداً من أن ويكيليكس يعمل كذراع أو كعميل لروسيا».. هل لديك أدلة يا سيد هايدن؟ يقول هايدن: «لا، أنا أفترض ذلك بناء على ما حدث خلال العام الماضي، وبناء على ما يفعله ويكيليكس، هم يدَّعون أنهم منظمة شفافية، أتمنى أن يدعموا الشفافية في بعض الدول الاستبدادية حول العالم بدلاً من التركيز على واحدة من أعظم الديمقراطيات».
أما المدافعين عن ويكيليكس فيؤكدون على أن المعلومات يجب أن تكون حرة، فهي ملك للقطاع العام.. والموقع ينشر معلومات الجرائم والفساد التي تقوم بها حكومات الدول التي تصنع الحروب. لذلك يرى أسانج أن السلطات الأمريكية تخشى من يحاسبها، معقباً بالقول: «دمرنا المصداقية الأميركية في أفغانستان». ويقول الموقع إن الوثائق لا تكشف وجود اختراق وكالة الاستخبارات الأمريكية فحسب وإنما تدل على تزييف الوكالة له ليظهر وكأنه صادر من روسيا.
نعود للمتهم الأول: أسانج مؤسس الموقع ومديره الذي يتعرض للمطاردة منذ سنين ومحاصر ومطلوب من القضاء الأمريكي ومن كثير من الدول الغربية، لماذا يفعل ذلك؟ يقول أسانج: «ما أفعله مجدٍ.. أنت تعيش حياتك مرة واحدة. إذن، لم لا تفعل شيئا مجدياً؟». الآن يرى أسانج أن الاستخبارات الأمريكية فقدت السيطرة على ترسانة أسلحتها الإلكترونية، حسبما قاله، في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي، مؤكداً أن الموقع لديه الكثير من الوثائق التي لم ينشرها بعد عن أساليب القرصنة والتجسس التي تستخدمها وكالة الاستخبارات الأمريكية. موقع ويكيليكس نفسه يتعرض منذ سنين للمضايقة الشديدة من مراقبة وإيقاف وقرصنة، وحتى الطرد من مواقعه في الإنترنت..
هل ويكيليكس تعمل لصالح روسيا؟ الأصل في الاتهام هو في الأدلة وليس المبررات أو الدوافع. فهل يملك أصحاب نظرية المؤامرة دليلاً واحداً؟ الواقع أنهم هم يجيبون بلا! ولكن هل يعني ذلك أن ويكيليكس مجرد مؤسسة مجتمع مدني حقوقية بريئة ووثائقها المسربة ذات مصداقية بلا أخطاء؟ كلا! فلا أحد يدعي أن مصداقية هذه الوثائق دقيقة، فهي عبارة عن تسريبات لوثائق متفاوتة المصداقية بين الاحتمال وشبه التأكيد. فهناك وثائق مجتزأة من سياقها، وهناك وثائق وقعت في التضليل دون علم كاتبها أو ناقلها، فضلاً عن وثائق مزيفة.
الأمر محير، وسيزداد حيرة، فمع ثقافة الإنترنت دخلنا عصراً جديداً من الإعلام الشعبوي بشكل عام، ومن الإعلام السياسي في موضوعنا هذا، حيث لم يعد ثمة شيء قابل للستر وانعدمت الثقة بالمؤسسات السياسية التقليدية، مما يتطلب مرحلة انتقالية لتعديل السلوك الدبلوماسي الدولي وليس الأمريكي فقط..
ملايين الوثائق السرية سربتها ويكيليكس، فماذا ستعمل الذاكرة معها؟ كيف سيصنف المحللون درجة مصداقيتها، وهل يكفي عدد المحللين لهذا الكم الهائل اللا متناهي من الوثائق، ليس من ويكيليكس فقط بل من غيرها أيضا؟ الإعلام الرقمي لم يغير الإعلام تكنولوجياً فقط، بل غير العالم الذي نعرفه.. وهذه التقنية ليست شيئا ملموساً، بل ذهنياً مجردا.. إنها المعرفة التي ستغير عقولنا وسلوكنا!