د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** يعيش المثقفون طبقيةً غير معلنةٍ؛ فيبدُون متشابهين وهم مختلفون، ووفقًا لها تتبدل مواقعهم كما مواقفهم؛ فربما انتمى الأعلى للأدنى، أو تملق الأدنى الأعلى، وراوح الوسطيُّ رتبةً بين العلو والهبوط، وتغيرت معادلات التبعية المجتمعية وفق المكتسبات المادية والوظيفية.
** تجيء هذه الفواصل عاملاً أهمَّ في تلون المثقفين وتبدل رؤاهم ورغبة الأقل في الارتقاء والأعلى في الانتماء، وهو ما يعني انتفاء الصدقية عن كثيرٍ مما يقال ويكتب، وهذه حقيقة يعيها العارفون فكثير مما يُعلن مختلفٌ عما يُبطن، ولعل هذه هي الصدمة الأولى التي يُفاجأُ بها محبو كاتبٍ أو قارئوه حين ينطق بمعجمين متضادين ويتخلَّق بسلوكين متناقضين.
** أما الصدمة الأقسى فهي حين يملأُه التكاذبُ فيصدق نفسه ويستلذُّ التمثيل ملتفتًا إلى «أناه» غير عابئٍ بالأصوات الصاخبة التي تُصم أذنيه مدويةً بانكشافه، والضميرِ الخافت الذي يناجيه مطالبًا بأوبته.
** ينزع المثقفون إلى التنظير أكثر من الممارسة فيسقطون في أفخاخ التناقض حين يفعلون ما ينهون عنه أو ما يدَّعون أنهم ينأون عنه، وهنا يجيءُ السقوط القيْميُّ للنخب أسوأُ من سقوطها الجماهيري، وحين يُكتب التأريخُ بمنأىً عن مؤثريه الرسميين ومثيريه النفعيين سيجيءُ السقوط النهائي في محاكماتٍ لا تُرتهنُ لواقعٍ أو مَواقع.
(2)
** ليس أسوأ ممن يستغل ضعف خصمه كي يثخن جراحه؛ فلا الخُلق ولا الوعيُ ولا الفروسية تبرر هذا أو تأذن به، وحين تحولت البوصلة نحو
«الصحويين» قبل ثلث قرن لم يُقصروا في الاستعلاء والاستعداء والوشاية واللمز بمناوئيهم، وظننا الضفة الأخرى ستعي الدرس فلا تكررُ المشهد بعدما دان الميدان لهم أو كاد فإذا «شهاب الدين» أكثر ترديًا من صاحبه، وإذا الحِرابُ تشعل حروبًا؛ فإلى أين نحن سائرون؟
(3)
** نتناقل الشك ونغفل عن اليقين، ونُذيع الشائعة ونتجاهل التصحيح، ونمرر الاتهامات ونغفل عن الحقائق، ويكفي أن نستقبل تغريدةً أو رسالةً أو خبرًا لنسارع إلى تدويرها عبر الوسائط المتاحة لنا، ولا يعنينا بعد هذا إن عرفنا جنايتها؛ فكأن التميزَ والسبقَ رديفان للانتقاد، وكأن ذممَنا لا يطالها الإثم حين لا نتوثق مما نتناقله ولا نبرأ منه عندما نكتشف زيفه.
** آن لنا أن ننفيَ من مجالسنا «العادية والرقمية» باعثي التضليل ومثيري الغبار والخائضين في سِير الخلق، وأن نعي أن فينا من سيحتسب ويتحسب ويتجه إلى القبلة بدموعه وخشوعه؛ فلا حجاب دون دعوة المظلوم.
(4)
** في زمن غير بعيد كان المخبرون ينتقلون إلى الناس ليسترقوا السمع، واليوم صار الناس يأتون إليهم كي يُهدوهم أصواتهم.
** وفي زمن قريب كنا نعرف العالِم بسَمته وصمته ودقة روايته وخصب رويته، واليوم صرنا لا نراهم فالجوُّ يملأُه الهاذر الهادر والمغامر المقامر.
(5)
** الزمن وعاء.