ماذا لو لم يمُض أبو عبد الله الصغير وثيقة تسليم غرناطة لإيزابيل وفرناندو، ويخرج من الباب الخلفي لحضارة دامت ثمانية قرون على شبه الجزيرة الإيبيرية؟ ماذا لو صمدت الخلافة الأموية بقرطبة ولم يقتحم ألفونسو السادس أسوار طليطلة المنيعة، وظلت الأندلس في جنوب أوروبا حضارة متعددة الثقافات والمكونات العرقية والاجتماعية؟
أسئلة ربما جالت في عقول كثير من الناس وخواطرهم لكنها سرعان ما تتلاشى؛ إذ الأمر في حقيقته افتراض عسير المنال حتى على الأندلسيين أنفسهم زمن التهافت التاريخي والسياسي لوطنهم. ولأن واقع الأندلس معقد في أبعاده الثقافية ودوره الحضاري والإستراتيجي، فليس من اليسير التنبؤ بسيناريو بعينه لما ستؤول إليه الأمور لو لم تسقط الأندلس حتى اليوم. ولعل التاريخ بمآلاته المتناسخة يعيننا على محاولة استقراء هذا الافتراض المحير، دون أن يكون اللجوء إليه قطعي الحسم إذا ما استحضرنا خصوصية الحالة الأندلسية بين نظيراتها في السياق التاريخي كله.
الغاية هنا سرد متصورات مستقبلية تقيس فداحة الفقد للحضارة الأندلسية، أو ربما تجعلنا نحمد الله عليه من منظور حيادي يرى الأمور بعين غير تلك التي ألفناها من باحثينا المتباكين على الأندلس، في الوقت الذي لا يقدمون له ما يبرر ذلك الصراخ الأزلي المثير للشفقة.
الدارس لتاريخ الأندلس يدرك تمام الإدراك خطورة الموقف الأندلسي من حيث نشأته في محيط مفارق كليًا، ولم ينس الأندلسيون العرب يومًا - بالرغم من عميق امتزاجهم بسكان البلاد الأصليين - أنهم قدموا من الشرق البعيد. هذه الخصوصية هي بعينها ما يفسر الفجيعة التي اجتاحت الشخصية الأندلسية مع كل فقد جديد لمدينة أو حاضرة، حتى إن بعض الشعراء عد الأندلس أرضًا مغتصبة ونادى بردها إلى أهلها والرحيل من أوروبا كلها، وبالرغم من أنه شعور مقيت من التيه والاستسلام، لكنه شديد الدلالة والأثر. بل حتى في المراحل الأخيرة للوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، نجد من الساسة العرب من ينصح أبناءه بعدم الاستكثار من العقار ويحثهم على الاستعداد للمغادرة باقتناء ما خف حمله وثقل ثمنه، بالرغم من تفانيه هو في صنع أسطورة الخلود للأمة الأندلسية مدعومة بالعون الإلهي الذي لا يغيب!
لقد اعتيد على وصف الأندلس بـ«الغريبة» التي يوصي بها الملوك والسلاطين وهم على فراش الموت؛ تلك القصية التي اختارت الاستقلال التام عن مركز الخلافة الإسلامية بالشرق وجاورت أممًا تتربص بها وتكبر من حولها وعلى حسابها.
وليس بخافٍ على المطلعين أن الأندلس لم تعوّل على نفسها حقيقة منذ انهيار ملك بني أمية فيها، بل ظلت مرتهنة بنخوة جيرانها المسلمين، ولما أعوزها المدد تهاوت مفردة وحيدة إلا من حماس الشرفاء من أبنائها. من هنا يمكن أن نعي حساسية الموقف الأندلسي ونحاول استجلاء المستقبل لو لم تسقط تلك الحضارة القصية الغريبة.
من أهم العوامل التي ينبغي عرض التخرصات عليها لو بقيت لنا الأندلس، هو واقع الإمبراطورية العثمانية المسلمة ذات النفوذ السياسي والعسكري في أوروبا آنذاك. فهل سيكون للعثمانيين دور حاسم في مصير الأندلس لو لم تسقط زمنهم؟ هنا يجب علينا أن نتذكر أن العثمانيين أنفسهم لم يكونوا قادرين على إسعاف الأندلس واستنقاذها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. وحتى تلك الاستغاثة الأليمة-على شكل قصيدة- التي وجهها الغرناطيون إليهم عقب السقوط بسنين قليلة، لم تلق صدى في نفس بني عثمان رغم أنهم سيروا جيوشًا لإغاثة ملك فرنسا في العهد نفسه، ما يعني أن المسألة لم تكن أولوية عندهم كما يشاع.
ولا شك أن استمرار الأندلس-لو لم تسقط نهاية القرن الخامس عشر- لن يكون مرتبطًا بامتداد الدولة العثمانية منذ إطاحتها بالمماليك بداية القرن السادس عشر، تمامًا كما أن استنجادات الأندلسيين بالمماليك غير مرة لم تثمر سوى مناورات كتابية وجيش من الدعاء أرسلوه لإخوتهم الغرناطيين كما تقول المصادر. هذا الأقرب بالنظر لحساسية موقع الجزيرة الإيبيرية وشدة مطالبة الكنيسة الغربية بغرناطة.
بيد أن قراءة أخرى ممكنة ومحتملة في هذه السياق؛ فالأندلس، لإستراتيجية موقعها وكونها جزءًا من العالم الإسلامي؛ قد تصبح ولاية من ولايات العثمانيين تستمد القوة والمدد من إسطنبول مباشرة، خاصة أن نفوذ المغاربة في شبه الجزيرة الإيبيرية قد اضمحل وتلاشى فعليا في الأندلس منذ وقعة طريف عام 741 هـ. إنها فرصة تاريخية للعثمانيين للإشراف على السواحل الجنوبية لأوروبا من جهاتها الثلاث.
ولأن الأندلس لن تكون جزءًا من تركيا في العصر الحديث، سيبقى لزامًا عليها مواجهة عدة احتمالات يفرضها الواقع والمنطق. فكما تفككت الدولة العثمانية وزال سلطانها عن الدول العربية؛ ستواجه الأندلس المصير نفسه.
إن الحتمية التاريخية ستفرض عليها قبول الاستعمار الغربي تمامًا كمصر والشام والعراق، وستكون إسبانيا في الغالب هي البلد المستعمِر وهنا يلوح احتمالان ربما لا ثالث لهما؛ الحصول على الاستقلال ونهاية الحماية أو الذوبان التام في مملكة إسبانيا.
وبالنظر إلى الموقع الجغرافي وتباين موازين القوى، لن يكون مستبعدًا عن مملكة إسبانيا التهام جارتها الأندلسية دون كبير مشقة إذا علمنا أن القوى الأوروبية ستقف في صف إسبانيا وهي تستعيد مكونًا مهمًا من مكوناتها ظل قروناً بأيدي الغرباء!... يتبع
- د. صالح عيظة الزهراني