- في زمن أصبح الإنسان ينعزل ليتصل، ويتصل لينعزل، صوتًا أو صورةً، أو صوتًا وصورة، سواءٌ كان ذلك ممارسةً تدرج تحت مضمون الترفيه البحت أو التوجيه البحت، تعددت وتجددت وظائف التواصل بالصورة ولغة الصورة، وإن ظلت اللغة نفسها جوهر فعل أي تواصل إنساني، مضمنة كامنةً كانت أم موجهة مباشرة. على كلٍ، ربما كانت خطورة الصورة المستعملة وسيلةً للتواصل اليوم تكمن في أنها لم تعد تصحب الخطاب، بل أصبح الخطاب يصحب الصورة.
- غيرت التقنية كثيرًا من مفاهيم التواصل والاتصال والخطاب، وأضافت أبعادًا جديدةً لأنساق التفاعل، فتقدمت الصورة الصوت، وبزت العدسة القلم واللاقطة، وبرزت ميادين التواصل الافتراضي وآلاته وآلياته على صفحات الكتب والجرائد والمجلات ومظان الكتابة والمكتبات وسائر عناصر الثقافة التقليدية، وتسيّدت ثقافة «رأي العين» ساحة التأثير وصار لها القدح المعلى والحظ الأوفى في جانب القدرة على تشكيل التصورات واستثارة الانفعالات والتنبؤ بالأحاسيس والمواقف، بل ورصدها كذلك. ربما لهذا الدافع، ومع تدرج تصاعد نجم الصورة وأهميتها في مكونات الإعلام الجديد، أصبح خطاب التواصل «الصوري» ميالًا إلى الانتقاء للالتقاء، بغض النظر عن كون هذا الخطاب في حقيقته تحقيقًا أم تلفيقا، وإن كانت لا تبعد هذه الانتقائية كثيرًا حقيقةً عن انتقائية التواصل اللفظي - قرائيًا كان أم صوتيًا- لكنها أوضح في خطاب الصورة بكثير، كما قد تكون أيسر دلالةً وتداولًا بين المرسل والمستقبل على السواء، إذ الغالب ألا يتطلب استيضاح رسالة الصورة وكنه مضمونها وغاياته - حقيقة- جهدًا عقليًا إضافيًا أو خلفيةً معرفيةً -لغويةً أدبيةً أو فلسفيةً فكريةً أو غيره- مشروطةً بالاستغراق والانقطاع الزماني للوقوف في ساحاته أو حمل راياته، وربما يفسر هذا الكثرة الطاغية لجمهور «الثقافة البصرية» على اختلاف مشاربه وبساطة تناولاته أحيانا، وتفوقه الصارخ -من حيث تعداد الإقبال وحسب- على جماهير أنماط الثقافة الأخرى. والحقيقة أن هنا مكمنًا من مكامن خطورة الصورة، من حيث قدرتها الهائلة التي أثبتتها على قلب موازين التلقي بنفي اشتراط المطاولة الزمنية المعرفية والمُكْنَة والمكانة الفكرية، بغض النظر عما إن كان ذلك القلب إيجابيًا أم سلبيا. والتقنية -على كل حال - سرٌ عميق من أسرار سقوط الحاجز الوهمي بين ممثلي صور الثقافة التقليدية السابقة – كُتَّابًا ومؤلفين ونحوهم- وبين متلقيهم، أو بتعبير اخر: بين الشريحتين المصطلح عليهما بالنخب والجماهير، وإن كان هذا الجانب مستحقًا لإفراد نظر في أحواله وتحولاته وحده.
- الصورة اليوم منتج المعاني والموحي بما وراء تلك المعاني. لطالما كانت الصورة في اللغة أسطورة الكناية، ومنتهى أساليب التعبير وغاية فنون البلاغة في أداء المراد، وأما الصورة اليوم فأسطورة الكناية ومحرض الخيال وملهم اللغة والبلاغة في عوالم التواصل الجديدة، وحاكم سياق التصور والإدراك والتفكير، والوسيط والعالم المتوسط بين الوقائع والأفكار، المنادي همسًا بالتركيز استنادًا على الترميز، الهادف ضمنًا إلى التكييف اعتمادًا على التكثيف. والواقع أن الصورة تظل وسيلةً للغة حتى في طغيانها على اللغة!
- هل تُنعِم الصورة على الحدث وصاحبه بالخلود؟ أم إنها مثل وميض عدستها أثرٌ خاطف لا يلبث إلا أن يذهب لا أثر له ولا عين؟!
- أكثر ما تكون الصورة محايلة، لا محايدة!
- بين أثر اللحظ واللحظة، تتجلى سيمياء الصورة وكيمياء التصور!
... ... ...
- علي الجبيلان