سهام القحطاني
لا شك أن الأمم التي تستند أو تساند حضارتها بأصل ديني تسعى من تلك المساندة إلى إثبات الرمزية القدسية لجذور حضارتها، ومن ثم استحقاقها الطبيعي للتمكين والسيطرة والقيادة.
«إن الفيالق التي ترسلها تحمل الصليب لا السيف سلاحًا، إن الدولة العليا التي تسعى أمريكا إلى الحصول على تأييد كل البشر لها ليست ذات أصل إنساني إنما إلهي». «الرئيس الأمريكي كولدج». «إننا شعب آمن بأن الله اصطفانا لإنشاء عالم أعظم» الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. ونستطيع أن نستنتج من خلال القولين السابقين حقيقة وفق اعتقاد المؤمن بها وهي؛ ربط العظمة والتمكين بالدين، فالدولة العليا في رأي الرئيس كولدج هي التي تؤسس في ظل عقيدة دينية رَمَز لها بالصليب، بل يستغرق فيما أبعد من ذلك فيجعل أمريكا دولة ذات أصل إلهي، وهذا الأصل هو الذي سيدفع الشعوب إلى تأييدها. ولا يختلف الرئيس ريغان عن سابقه من حيث مبدأ الاعتقاد إلا بتوسيع تلك الرمزية القدسية التي أضفت صفة «الاصطفاء» على الشعب الأمريكي هذا الاصطفاء الذي سيمنحه القدرة على إنشاء عالم أعظم، وهذا الاصطفاء هو الذي حول أمريكا إلى»شرطة العالم».
وفكرة الاصطفاء كمعادل للقدسية التي طالما استندت عليها «شرعية السوبرمانية الدينية» هي فكرة قدسية قديمة ارتبطت بدايتها باليهود الذين أحاطوا عرقهم باصطفائية «شعب الله المختار».
ثم انتقل هذا التوصيف إلى المسلمين الذين أحاطوا أنفسهم باصطفائية «خير أمة».
لكن هناك فرق بين دعوى الطرفين في الانتساب لأصل الاصطفائية، فالمسلمون لا يستندون في تفوقهم الاصطفائي على العرق مثل اليهود إنما يستندون على «قيمة الدين بمنطلقاتها» خلاف «خاصية العرق».كما أن هذه القيمة هي التي أسست «الهوية الإسلامية» وصنعت ثباتها الذي لا يتغير مع اختلاف الزمان والمكان رغم تعرضها للضرر من حين إلى حين، وهذا الذي صنع خطورة الهوية الإسلامية، تلك الخطورة التي تأسست في ضوئها نظرية صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي.
تكمن خطورة أي هوية على الآخر من خلال خصائص تلك الهوية. ويمكن أن نحدد تلك الخصائص في محورين، طبيعة الإسلام، وطبيعة الهوية الإسلامية. تتصف طبيعة الإسلام بالمرونة والانفتاح على الآخر وهذا هو المثبّت والموثق عبر مراحل تاريخ الحضارة الإسلامية التي تأسست على قاعدة الشراكات الثقافية المختلفة الفارسية والإغريقية واليهودية والمسيحية، كما يتميّز الإسلام بعدم إقامة حدود مانعة للبحث والتفكير العلمي، إضافة إلى رعايته للعقلية والفهم القائم على الحجة والحكمة وكل ذلك هو الذي أسس السوبرمانية الدينية للإسلام الذي تمثل في السيطرة على نصف العالم القديمة وإنشاء حضارة عظيمة أرهصت لرقي الإنسان وتطوره.
وأنا هنا أتحدث عن طبيعة أصل الإسلام، لا عمّا تم تعديله من تلك الطبيعة على يدّ الأوائل والأواخر من رجال الدين الذين أسسوا الجاهلية الدينية بدعوى أنها من أصل الدين وبمبررات ما أنزل الله بها من سلطان، فأخرجوا الأمة من الزمن الحضاري. وهذه الطبيعة تجعل الإسلام دين جذب للآخر الذي يدركه بعيدًا عن الملابسات الزائفة والجاهلة التي ركبّت على تلك الطبيعة، وتلك الجاذبية إن سارت في مسارها الطبيعي دون تدخل أو توقيف فإنها ستنتج بالتراكمية اتساع مساحة التابعين له، ولذلك كان لا بد من تحجيم تلك الجاذبية أو التشكيك فيها أو تشويها. اقترن الإسلام وفق اتباعه في الذهنية الغربية والأمريكية بالجهل والتخلف، ومجمل ثقافة تلك الذهنية هي مكتسبة من خلال ما يقدمه لها التصور الإعلامي، وعندما توسعت الهجرات العربية والإسلامية لأمريكا وأوروبا بدأت تلك الذهنية تكتشف زيف ما يٌقدم عن الإسلام خلال الإعلام والفن، وكان هذا يعني أن فكرة الجهل والتخلف فقدت تأثيرها على تلك الذهنية، ولذا كان لا بد من فكرة تجدد سلطة التأثير على تلك الذهنية، فجاءت فكرة الإرهاب، الفكرة التي أرهصت لها نظرية صدام الحضارات.
تذهب نظرية صدام الحضارات أن الهوية الإسلامية تمثل خطورة على الحضارة الغربية، والخطورة المقصود بها التطرف والعنف والإرهاب لأسباب منها:
إن المسلمين مؤمنون بقيم دينهم وهذا الإيمان هو الذي أسس تفوقهم الديني، أنهم يعتقدون أن القيم الحضارية هي ممثل لقيم دينهم وهذا الاعتقاد يدفعهم إلى رفض أي قيم مستوردة من الغرب بسبب خلوها من الروحانية ومن ثم محاربتها. إنهم مؤمنون بقدرتهم على إعادة إنشاء حضارة كما فعلوا أول مرة، وهذا الإيمان يدفعهم إلى عدائية الحضارة الغربية التي يرونها أقل قدرًا وكفاءة وقيمًا من حضارتهم الماضية والآتية، وقبل ذلك خصائص المجتمعات الإسلامية الحالية من تفشي الجهل والأمية والتطرف ومناصرة الديكتاتورية الحاكمة وفرض قيم الحضارة الغربية على المجتمعات الإسلامية، وهي أسباب تدفع تلك المجتمعات إلى عدائية الغرب.
والحقيقة أن التطرف والعنف هما ردة فعل لمواقف الغرب وأمريكا من قضايا المسلمين والكيل بميزانين وهذه الإجرائية تجعل الغرب في دائرة الاتهام في الذهنية الشعبية العربية والإسلامية، مما توسع دائرة المؤامرة لهيمنة الغرب على العرب والمسلمين وهو ما ينتج عنه مقاومة تساوي الفعل في كفاية القوة والأثر.