د. خيرية السقاف
في القرية الكبيرة, عرف الناس حمامة أليفة تعيش بينهم لا تهابهم, لها طباعها التي ألِــفوها, وطريقتها التي اعتادوا عليها, وعرفوها، فهي بينهم تشبه كثيرا أن تكون في الشارع امرأتهم الحيية, تتخذ من جوانب الطرق ممراتها حين الشمس أو الزحام, وتسرع في قضاء حاجاتها حين تلتقط حبة، أو ترشف قطرة, أو تحمل لعشها عودا, وهي على أسوارهم تشبه الأم «تناغي» صغارها بأعذب الأهازيج, ..تدخل بيوتهم بلا تردد فتؤنسهم, وتحضر موائدهم في خفرها, وحيائها, وتشاركهم أحزانهم بنواح هديلها، وأفراحهم برفيف جناحيها, تشارك صغارهم لهوهم في الحديقة, والشارع, والدار, تحلق حولهم في البيت, تمرر جناحيها عليهم وهم نيام.
كل البيوت في طرف يدها مفاتيحها, لا بيت إلا وهي فيه، وحوله, ومن أجله محلقة, ونازلة, تحوم، وتهدل..
لكن هذه الحمامة استيقظت يوما على هدير كما آلات الحفر في الجبال, وأصوات منقضَّاتٍ كما قطع الجبال وهي تسَّقط من علٍ, وكما وقع حوافر الجياد في ساحات المعركة, ..
فقفت خارج الأبواب, رفعت عنها طرفي جناحيها, انطلقت غير آبهة كانطلاق السجين من عقاله, تشق الهدير بهديرها وإن وهن, تزج نفسها في المعمعة وإن قست عليها, تفقد ريشا من جناحيها وإن تهاوت مرة, ونجت مرة, تجرحها اللطمات وإن تألمت, تعتريها بسالة وإن خسرت, والناس الذين عرفوها, وألفوها بعضٌ منهم يشجعها ويصفق لها, وبعض آخر «يتفرج» عليها ولا يعنيه أمرها, وبعض غيرهم يشفق عليها, فيهم الحانق, والخائف, والشامت, وبعض فيهم يدون في السيرة معركتها، والبقية في القرية الكبيرة تغلق بابها, وتغط في نوم عميق, أو تتجاهل الهدير!!..
الحمامة لا تزال في المعمعة في عمق أوارها, وهديرها, وحصاها, وغبارها, وبين حجري رحاها..!!