د.ثريا العريض
في أجواء جولة خادم الحرمين الشريفين في دول شرق آسيا وما نقلته وسائل الإعلام من تفاصيل الاستقبال الحاشد بالترحيب والاحترام، ثم متابعة زيارة سمو ولي ولي العهد إلى الولايات المتحدة، وما حملت الزيارات من توضيحات المسؤولين للرؤية 2030 وبرامجها القائمة والمستمرة، تصلنا بوضوح الرسالة التي حملوها للمسؤولين هناك وللعالم كله، وهي الرغبة في ريادة تغير في العلاقات الثنائية نحدد فيها لأنفسنا دور الفاعل المشارك وليس فقط الدور المعتاد أي المانح أو المتلقي. وإذ أتأمل تفاصيل ما ينقل ليس عبر الخطابات الرسمية وتصريحات الناطقين الرسميين فقط، بل أيضًا عبر ملاحظة تعابير الوجوه والتفاصيل العفوية للغة أجساد الحاضرين في الاجتماعات الرسمية والشعبية، أرى التقبل المعجب بما يرون من حضور مختلف، ورسالة واضحة جديدة التفاصيل خارج بروتوكولات زيارة رسمية من عاهل محترم المقام، أو مسؤول يوقع اتفاقية تقليدية.
ما يصل إليهم ويرحبون به هو التغير في لب الأفعال هنا وليس نص الأقوال في خطابات تلقى عليهم.
نعم العالم يراقب ما نفعل بإعجاب..
الحقيقة أن هناك تغييرًا واضحًا فيما نقدم به «ثقافتنا» الجديدة.
ومسألة «الثقافة» تتداخل مع المصطلح المستهلك لـ»خصوصيتنا»، لتخرج بها من إطار خصوصية الماضوية والنظرة الفوقية المتجذرة في الثراء المادي وجمود التحجر في أمجاد الماضي مع هباء محاولة استعادة نبض الحياة في تاريخ مضى، وتقفز إلى إطار حي لرؤية جديدة مصيرية الأهمية، وهي معايشة الحاضر مع تركيز الهدف على التحكم في مسيرة المستقبل اقتصاديًا، وبناء مجتمع يقوم على ثقافة المشاركة والاستحقاق والعطاء المتخصص والندية والاعتدال واحترام الآخر بصدق.
كثيرًا ما حاولت أن أوضح هلامية مصطلح الثقافة حين نطالب المثقفين القيام بدورهم في ريادة المجتمع، أو نطالب بحقوق للمثقفين أو نتساءل عن موقعنا من الثقافة العالمية. هل نعرف بالضبط ماذا يعني مصطلح «الثقافة» التي نتكلم عنها؟ وكيف نصنف فردًا ما مثقفًا أو لا؟
«الثقافة» مصطلح هلامي مثل مصطلحات كثيرة نتداولها في حياتنا اليومية تتمتع بمرونة تسمح لها بمعانٍ مختلفة وقد تكون متناقضة بين هذه الفئة أو تلك وهذا الفرد أو ذاك.
من هذه المصطلحات: ثقافتنا، خصوصيتنا، هويتنا التي لها مرونة احتواء ما نريد وإلغاء ما لا نريد حسب التفضيلات الخاصة بهذه الفئة أو تلك في صراع الهيمنة عبر التسلط. وقد أصبحت في بعض معانيها المنتقاة نيرًا وقيدًا يمنع المجتمع من الانفتاح على معانيها الأخرى التي كاد أن يتم تهميشها حد الإلغاء.
في الشهرين الماضيين تابعت مع الكثيرين وبتفاؤل مستحق تفاصيل نشاطات ثقافية في شتى مناطق المملكة.. من الأمسيات الموسيقية والمعارض الفنية ومعرض الكتاب.. ولا يمكن إلا الابتهاج بأن مرحلة «خصوصية» فرض صفة التحجر كقالب لثقافتنا قد انتهت والحمد لله. وأننا نعايش عهد يسمح بتدفق روافد البناء الثقافي الطبيعي المواكب لمستجدات العالم من حولنا، بعد أن كادت تجف لعقود تصاعدت فيها سمة التقليص والتراجع وترسخت حتى كاد الابتسام خلالها يمسي ممنوعًا محرمًا، عدنا مؤخرًا الثقافة الطبيعية في المجتمع.
وكأي مستجد مهم تواكب الأحداث تغطيات إعلامية رسمية وغير رسمية ونقاشات وحوارات جانبية في المجالس والمنتديات الإلكترونية حول الحوار. ويتناول النقاش سلبيات وإيجابيات الطروحات التي قدمت في قاعات الاجتماعات.
الغائب الممنوع في تداول المستجدات والحوارات حولها هو الصخب الغوغائي.. وهذا جميل. إغلاق منابر الصخب يعني أننا جادون في تغيير الثقافة من تسييد تلقي تعليمات التصرف المظهري، إلى ممارسة رقي الحياة بمسؤولية ذاتية. وحين يتنامى الشعور بالرضى نستطيع أن نركز جميعًا على بناء علاقات متوازنة داخليًا ومع العالم في الخارج نتعاون فيها على محاربة الإرهاب وتنمية الاقتصاد وحماية الأمن وتنفيذ المشروعات وإرضاء المواطنين والزائرين.
هذا بالضبط ما جعل العالم من حولنا يحتفي بتفاصيل الرؤية، إِذ يتفاءل معنا بمستقبل أسعد وثقافة أكثر تمثيلاً لقيم ديننا العميق الصادق التسامح حين نزور الآخرين أو يزورونا ونمد أيدينا لمصافحتهم.