عبدالعزيز السماري
لم يرتبط اسم الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- فقط بإنجاز الوحدة الوطنية وتأسيس دولة مترامية الأطرف في العصر الحديث، ولكن ارتبط أيضًا بإنجازات ورؤى مستنيرة في زمن كان تطغى عليه الأمية والتخلف..
فكان أول من أعلن نبذ التطرف والتشدد، وعمل على تجفيف منابع الانقسام على أسس طائفية أو قبلية، وكان أول من دشن مسيرة التعليم والإنجاز، وعمل على استثمار التكنولوجيا والمبتكرات في اكتشاف النفط، الذي كان له الفضل في إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية حسب لغة العصر.
في مفارقة، يرتبط اسم المؤسس -طيبه الله ثراه- في هذا العصر بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وهي مؤسسة تُعنَى بالاستثمار في البحوث العلمية وتشجيع مبادرات الابتكار والاكتشاف العلمي، وفي اتجاه آخر يرتبط اسم المؤسس بجائزة الملك عبدالعزيز للإبل، وهي مؤسسة تهتم بالتراث في زمن التوحيد وما قبله..
خلال الأيام الماضية انتشرت ملصقات تروج لجوائز إحداها باسم خادم الحرمين الشريفين، وترتبط بمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وأخرى عن تفاصيل لجائزة الملك عبدالعزيز للأدب الشعبي في فئات الشيلات والشعر النبطي والمحاورة..
كانت المبالغ المرصودة للجوائز الأولى (الشيلات والمحاورة) تصل إلى خمسة ملايين ريال سعودي للفائز الأول، بينما كانت جوائز خادم الحرمين الشريفين في مدينة الملك عبدالعزيز للعوم والتقنية للمخترعين والمكتشفين لا تتجاوز مائة ألف ريال سعودي لصاحب الإنجاز العلمي.
أدرك جيدًا أن هناك مجتهدين في هذا الشأن، وأنهم ربما عن حسن نية قدموا هذه الصورة المشوهة للمجتمع عن الرمز الأهم في تاريخ الوطن؛ فالرسالة التي تلقاها المجتمع أن تراث الشيلات والمحاورة والشعر النبطي أهم من التقدم العلمي وشيوع المبادرات العلمية كالاختراعات والاكتشافات..
فهل كان حلم الملك المؤسس - طيب الله ثراه - أن نعيد في عصر العلم والتكنولوجيا إنتاج أدوات الانقسام والجهل في عصور الأمية، أم كان حلمه أن نصل إلى مصاف الدول المتقدمة في العلم والتكنولوجيا، ولاسيما أنه كان أول من أطلق العنان للتفكير العلمي عندما فتح أبواب الوطن للعقول وأصحاب الإنجازات للمشاركة في النهضة الوطنية؟
عُرف عن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - أطال الله في عمره - اهتمامه الرفيع بالعلم والفكر، وكانت سيرته متلازمة مع مراحل التطور العلمي.. وما فعله هؤلاء المجتهدون عن حسن نية يخالف طموحات خادم الحرمين الشريفين في دفع مسيرة التقدم العلمي، والابتعاد قدر الإمكان عن ثقافة التشرذم والانقسام..
الشعر النبطي والفنون الشعبية، كالمحاورة وغيرها، تدخل في سياق البُعد الإنساني في الماضي، ويجب أن تبقى في ذلك الإطار، وأن لا تتحول إلى إنجاز وطني في العصر الراهن، وقد تكون أرضًا خصبة للباحثين..
يكمن وجه الخطورة في إعادة إنتاجها في هذا العصر، أو في غير زمنها، أنه قد يعيد معها تراث الانقسام والتفاخر القبلي ورموز الصحراء والجوع والغزو. والأهم من ذلك أنه يخالف نهج وحلم المؤسس الذي أخرج الجزيرة العربية من سيطرة ثقافة التخلف والأمية إلى السير بخطوات نحو عصر التقدم والتطور العلمي.
في ظل هذه الرسالة المزدوجة تمر المملكة بتحديات من نوع مختلف؛ فالتحديات الحالية لا يمكن تجاوزها إلا بالعلم وتشجيع مبادرات الابتكار.. فأزمات المياه والطاقة والتنوع الاقتصادي تحتاج إلى عقول وأجيال متعلمة ومتعاقبة.. ورؤية الوطن التي أطلقها ولي ولي العهد -حفظه الله- تختلف تمامًا عن فحوى هذه الرسالة؛ فالوطن في ظل الرؤية المستقبلية يحتاج إلى وضع محفزات كبرى في هذا الطريق من أجل تجاوز أخطار العودة إلى عصور الجفاف والجوع والانقسام.
لذلك على بعض المجتهدين عن حسن نية أن يدركوا خطأ ما فعلوه؛ فقد أرسلوا رسالة في منتهي السلبية للجيل الجديد، وتحمل في طياتها أن الشعر النبطي والشيلات وصيحات القبيلة في الوطن أهم من أهداف التحصيل العلمي وتحقيق الاكتشاف والاختراع العلمي في عصر المعرفة والعلوم والتكنولوجيا.