د.دلال بنت مخلد الحربي
أبدأ من مهمة المؤرخ الأساسية والمتفق عليها ألا وهي:
تسجيل الوقائع
وفي إطار هذه المهمة أسأل: كيف يتم اتفاق الباحثين على الحقائق؟
وكيف نتوصل إلى القناعة بأنها حقائق؟
في المقابل ما الذي يجعلنا نجزم بأن هناك أخطاء للمؤرخين أو بعضهم؟
وهل نناقش من منطلق أن هناك حقائق في التاريخ، وأن هناك أوهاماً وأخطاءً في التاريخ؟
فكيف نقرر الحقيقة؟
وكيف نقرر الخطأ؟
وجهة نظري أن هذا الموضوع يفتح باب عدم الثقة بالتاريخ والمؤرخين من خلال تقصّد البعض تشويه أو قلب الحقائق بدافع عقائدي أو سياسي أو شخصي.
أعتقد أن هذا منطلق حديثنا وليس قضية الحقيقة والخطأ.. فالحقيقة من الممكن الوصول إليها عن طريق مادة علمية وأدوات بحث ومنهجية علمية.
أما الخطأ فهو في العادة وجود معلومة خاطئة من المؤرخ لم يتقصدها ولكن يمكن تصحيحها بالقرائن والأحداث المساندة، وتوظيف أعمال النقد وهي الآلية الحاكمة بين النص والحقيقة، ومثل هذه قد يقع فيها بعض المؤرخين من غير قصد، وأحياناً يكون الخطأ نتيجة وهم في ذهن المؤرخ أدَّى إلى التباس الأحداث، ولكن حتى هذا يعد خطأ غير مقصود يمكن الوصول إلى صحته بالقرائن، أو قد يكون مقصوداً خاصة مع ظهور وظيفة المؤرخ الرسمي الذي يكتب للسلطة ليبني صورة إيجابية عنها مقابل أجر يتقاضاه.
أعود إلى ما بدأت به.. وهو أن مجال حديثنا يتركز على تشويه حقائق التاريخ أو تجميلها أو خلطها لدوافع عديدة، وهو ما عبر عنه بعض المهتمين بـ (حقيقة التاريخ) أو (حقيقة الموقف)، وهي الحقيقة التي ارتبطت بموقف المؤرخ من الحدث أكثر من ارتباطها بالأدلة والبراهين.
وفي الآونة الأخيرة جرى الحديث كثيراً عن إعادة كتابة التاريخ، وتصحيح التاريخ، وغربلة التاريخ نتيجة ما وقف عليه بعض الباحثين من أمور تاريخية شعروا أنها في حاجة إلى معالجة لتصويب مسارها.
ولكن من المؤسف أن بعض هؤلاء الذين حملوا لواء «تصحيح التاريخ» كانت دوافعهم مع الأسف الشديد «شخصية».
مثلاً: هناك من حاول إلغاء دور أشخاص، أو تضخيم دور أشخاص آخرين، وهناك من بنى على حدث صغير قضية كبيرة، وهناك من فسر موقفاً أو ردود فعل طبيعية بتحميلها نتائج معينة، وهناك من طرح أسئلة اعتراضية ليثبت حقيقة مزيفة يريد تعميمها، بل إن هناك من رأى أن استخدام الكذب في الكتابة التاريخية ضروري أحياناً بسبب عدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة كاملة.
من هنا نجد أن هذه القضية شائكة تتطلب ترسيخ مفاهيم أخلاقية والتشدد في المنهجية العلمية، وهو ما أطلق عليه مارك بلوخ (المؤرخ الفرنسي الشهير (1303هـ - 1886م / 1363 هـ - 1944م) أخلاق الحقيقة: بضبط قواعد المنهج التاريخي وتصحيح ممارسات المؤرخين.
إذا أخذنا القضية من جانب الأوهام فإنَّ هناك قضايا يمكن القول إنها في كثير من الأحيان تكاد تتحول إلى حقائق، بسبب الوهم في مسائل عامة لم تدرس على شكل عميق مثل القول إن المرأة في الجزيرة العربية كانت مهملة ولم يكن لها دور ولم تسهم بشيء.
هذه السلبيات أو النواقص يتوهمها الإِنسان لأنه لا يجد أي معلومة عند المؤرخين السابقين تشير إلى هذه النقطة خاصة في وسط الجزيرة العربية، ومن خلال مجموعة من الدراسات التي أعددتها لتقصي وضع المرأة أدركت أن كل تلك السلبيات والنواقص هي من الأوهام وأن الحقائق هي عكسها.
فقد وقفت من خلال دراساتي على المرأة القائدة، والمرأة الشاعرة، والمرأة العالمة، والمرأة المساهمة في الحياة العامة، ووجدت أن المرأة كانت تسهم وتشارك في قضايا الحياة بصفة عامة مثل الأوقاف ودعم التعليم وإتاحة المعرفة.
** **
(*) جزء من مشاركتي في ندوة (حقائق التاريخ وأوهام المؤرخين) في معرض الكتاب بتاريخ الخميس 17 جمادى الآخرة 1438هـ / 16 مارس 2017م.