د. فوزية البكر
اسمه بندر ووصلتني رسالة تطلب المساعدة في إعتاق رقبته. بعد التحرّي والتقصي تبيّن لي كيف أن البيئات الفقيرة مادياً وثقافياً يمكن أن توفر مناخاً مؤاتياً للسقوط في المحذورات خاصة مع اليتم والفقر والانقطاع عن الدراسة وغياب المؤسسات الاجتماعية الحكومية والمدنية ذات برامج مستدامة تتابع الفقراء والضائعين والمتساقطين من المدارس وهو ما أدي بهذا الشاب إلى الوقوع في براثن القتل فألقي به في السجن منذ سنوات.
وقد قرّر الشرع الحنيف القصاص في القتل عمداً أو خطأ وذلك لردع من تسوّل له نفسه العبث بأرواح الناس تبعاً للآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (179) سورة البقرة، وقوله تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقّ} (68) سورة الفرقان، ومن هنا صدر قرار المجلس الأعلى للقضاء في 8 شوال 1432 برفع قيمة الدية إلى 300 ألف ريال للقتل الخطأ، و400 ألف ريال للقتل العمد، ويتضمن ذلك أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل.
في ذات الوقت أكد الإسلام وتعاليم نبينا الكريم على نبل العفو وغلب العفو على القتل في الكثير من نصوصه ومنها ما روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه, قال: ما نقص مال من صدقة, ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً, فاعفوا يعزكم الله, ولا فتح عبد مسألة إلا فتح الله له بها باب فقر أو كلمة نحوه). هذا في الدنيا, وأما الآخرة فقوله صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن يشرف له البنيان, وترفع له الدرجات, فليعف عمّن ظلمه, ويعطي من حرمه, ويصل من قطعه). وفي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة، أي النافلة، قلنا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين.
المدهش هو ما يحدث لاحقاً بعد صدور الحكم الشرعي بالإدانة وهو ما يمكن تسميته الاتجار بالصلح بين أهل القتيل والمدان، إذ يبدو أن الموضوع لم يعد فقط رغبة في تأديب الجاني وردعه عن القيام بما يضره ويضر المجتمع، بل تحول إلى (بزنس) كبير تدخل فيه أطراف كثيرة وكل منها يحاول اقتطاع جزء من الغنيمة ولذا ظهر في إطار قضايا الصلح اقتصاد ظل هلامي كبير يجمع بين السماسرة والمكاتب وجامعي الدية وغير ذلك من اللاعبين الذين يودون انتهاش جزء من الغنيمة، وأنا في هذا لا أعمم.
والرغبة في الصلح لا تتعارض مع ديننا الإسلامي الذي يبتغي إرضاء نفوس من فقدوا أحبابهم ظلماً لكن المشرع لم يقصد أبداً أن تصل مطالب الصلح إلى مبالغ خيالية مثل هذه نعرف سلفاً أن صبياً فقيراً ملقى في السجن لن يحصلها كما أن غيره ممن يستطيع أن يحصلها فعلاً إنما يفعل ذلك على أكتاف وقوت عوائل من قبيلة القاتل اضطروا إلى إرهاق أنفسهم ودفع الغالي والرخيص من أجل دفع هذه المبالغ الخيالية التي لم يعرفها المجتمع الإسلامي ولا السعودي من قبل.
لا أعرف في الحقيقية ماذا يجري في هذا الشأن بالنسبة للدول الإسلامية الأخرى لكنني أعرف أن الكثير من علمائنا الأفاضل قد نادوا بعدم المبالغة في قضايا الصلح، حيث هي ظاهرة مؤذية لنا داخلياً وخارجياً كما أنها لا تعبّر عن مجتمع متكافل يشد بعضه بعضاً وأوصى الكثير منهم بضرورة الإشادة بمن عفا وتقديمه في المحافل الجامعية والقبلية كنموذج يحتذي وقدوة تستحق جوائز وطنية، في ذات الوقت حان للمؤسسات الدينية ذات السطوة في الميدان الاجتماعي وللجهات الحكومية ذات العلاقة أن تتدخل لتحمي الناس من جشع الناس ولتخنق سرطان هذا الاقتصاد البشع الذي يعيش على لحوم البشر وأرزاقهم دون أن يكون منتجاً إضافة إلى أننا اليوم نعيش في ظل دول مدنية تلتزم الأعراف الإنسانية العامة وتؤكد على تطبيق الشريعة لكنها لا تشجع ما فيه ضرر للفرد أو المجتمع والاتجار بقضايا الصلح في قضايا الدية للقتل وبهذا الشكل العلني البشع هي أسوأ صورة يمكن أن نقدّمها للعالم عنا، كما أن حياة البشر حتى لو كانوا مجرمين تستحق أن نمنحها الفرصة لتعود لإنسانيتها من خلال تطبيق الشرع الحنيف بعيداً عن المزايدات القبلية التي كان يجب أن نغادرها منذ أزمان.